شهر ونيف على اندلاع الغزو الروسي على أوكرانيا أو كما يحلو للروس انطلاق العملية العسكرية الخاصة المتعلقة بفرض تنفيذ الشروط الروسية ومنها الاعتراف شبه جزيرة القرم بأنها أرض روسية والاعتراف بجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك، ومنع أوكرانيا من مجرد التفكير في الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي الناتو.
وفي ظل عمل أوكرانيا خلال السنوات الأخيرة لتحديث وإصلاح قواتها المسلحة بعد الاحتلال الروسي لشبه جزيرة القرم ودعمها للانفصاليين في دونباس في 2014، بادر الروس بغزو جديد لأوكرانيا لإنجاز عملية عسكرية خاطفة بظن أن تحقق لهم تفوقاً في مشروعهم النيوامبيريالي. هذا المشروع الذي يعتمد على رؤية جيوبولتيكية بضم أراضي المجموعات السكانية الناطقة بالروسية في اوكرانيا وجورجيا ودول البلطيق لروسيا وفرض واقع جديد في النظام العالمي عن طريق التوسع العسكري. إن هذا الغزو مستمر حتى اليوم دون تحقيق نجاحات عسكرية كبيرة في ظل المقاومة الأوكرانية الشرسة، مما ينبئ باستمرار النزاع لفترة طويلة.
لقد أدى الغزو الروسي لتداعيات مختلفة انعكست على دول القارة الأفريقية بشكل مباشر وعلى محاور متعددة . وعلى الرغم من أن الدول الأفريقية حاولت أن تنأى بنفسها بعيداً عن الموقف الغربي ضد الحرب الروسية على أوكرانيا في الأمم المتحدة، حيث امتنعت كل من الجزائر والسودان ومالي والكونغو برازافيل وجنوب أفريقيا وأنغولا وبورندي والسنغال وأوغندا وتنزانيا عن التصويت، وبلغ العدد الكلي للممتنعين حوالي 15 دولة. من جهتها فضلت بعض الدول الغياب عن التصويت وذلك يدل على الكثير. وتشمل الدول الغائبة المغرب وتوغو وغينيا بيساو وغينيا وبوركينا. من جهتها أدانت بعض الدول العدوان الروسي على أوكرانيا ومنها مصر ونيجيريا وتونس وزامبيا وتشاد.
ويأتي الموقف الأفريقي شبه المحايد أولاً من الاختراقات الكبيرة التي حققتها روسيا خلال الأعوام الأخيرة في أفريقيا، وثانياً بسبب علم الدول الأفريقية بمآلات الحرب على أوكرانيا وتأثيرها السلبي عليها من جوانب متعددة ومتنوعة، لذلك فضلت ألا تتخذ موقفا صارماً من العدوان.
ويشكل التحدي الأكبر الذي واجه النظم الأفريقية في عدم قدرتها على إيجاد بدائل سريعة وفعالة لمعالجة النقص الحاد في الحبوب لاسيما القمح والذرة وزيت زهرة الشمس، باعتبار أن معظم الاقتصاديات الأفريقية تعتمد على هذه المنتجات الواردة من روسيا وأوكرانيا، حيث تواجه أغلبية الدول المستوردة بموجة من الغلاء وارتفاع الأسعار. وظهرت تلك الآثار فعلياً على دول القرن الأفريقي التي تعاني أصلا من الحروب والجفاف والتصحر.
أما الإشكالية الأكبر فتكمن في أن آثار الحرب شملت قطاعات اقتصادية أخرى، وعلى رأسها ارتفاع أسعار الوقود الأحفوري من بترول وغاز إلخ وهذا يؤثر على قطاع الصناعة وبالتالي يؤثر بطريقة سلبية على السلع الخدمات.
إن الاقتصاديات الأفريقية هي الخاسر الأكبر من هذه الحرب بسبب اعتمادها على تصدير مواردها في شكل خام، واستيرادها للمنتجات المصنعة. إن علاقات التبعية والتنمية غير المرشدة هذه تفقد الاقتصاديات الأفريقية لفاعليتها وتضعف تأثير دولها على ديناميكيات تنمية الناتج المحلي الإجمالي. على ضوء دروس هذه الحرب، ينبغي على الحكومات الأفريقية أن تستفيد من الأزمة الحالية لعقد وتفعيل شراكات استراتيجية، والاستفادة من إمكانيات وفرص بعضها البعض لضمان الأمن الغذائي الأفريقي وأمن الطاقة، وذلك أولاً بزراعة كل المساحة الصالحة للزراعة لاسيما في جنوب الساحل ومنطقة البحيرات العظمى وجنوبي أفريقيا إلخ، وثانياً تبادل بيع منتجات الطاقة فيما بينها بين الدول المنتجة لموارد الطاقة والدول المستهلكة. كما على الدول الأفريقية توطين الصناعات التحويلية الخفيفة والمتوسطة بالاعتماد على الدول التي تمتلك أرضية لذلك كدول شمال أفريقيا وجنوب أفريقيا .
أعتقد بأن التاريخ يعيد نفسه بشكل أو بأخر، حيث أنه كما نجحت الدول الآسيوية والأفريقية في تكوين منظمة عدم الانحياز إبان الحرب الباردة، فإن الفرصة مواتية الآن والظروف سانحة للانفكاك من التبعية إلى الغرب أو الشرق. إن الشعوب الأفريقية بحاجة إلى قيادات رشيدة تعمل على تطوير نماذج متفردة لمعالجة الاختلالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، والاعتماد على الشراكات بينها التي تقوم على الندية والمصالح المشتركة، بعيداً عن الانقياد لهذا الطرف أو ذاك من اللاعبين الدوليين.