يقال إنه عند ما كانت تغرق السفينة العملاقة “تيتانيك” التي أبحرت في مطلع القرن العشرين، أمر قبطانها الفرقة الموسيقة التابعة لها أن يواصلوا العزف توهيماً للناس أن حال السفينة مازال بخير، وأنها على مسارها الصحيح. بكل العواصف التي تواجه سفينة الرئيس الحالي المنتهية ولايته والتي تصطدم بعدة صخور جليدية سياسية وأخرى دستوىية ، بما فيها–لا الحصر—تأزم المناخ السياسي، تدهور الأوضاع الأمنية للبلاد، غلاء معيشي غير مسبوق، وتداعيات عملية انتخابية تعد واحدة من أطول وأكثر الانتخابات فساداً على التاريخ الصومالي الحديث ، مازالت المجموعة الحاكمة تستمر ببث شعاراتها المضللة والمعتادة التي انتهجوها في السنوات الخمس الماضية ليصوروا للناس أنهم مازالوا جديرين بحكم البلد .
الممارسات السياسية في السنوات الماضية كانت كفيلة بكشف مدى هشاشة النظام القائم، ونية المجموعة الحاكمة التي استدانت جانباً من فكر “نيرون” المبني على جنون الشك والعظمة والتشكك ممن حولهم أو من له خبرة بنظام الدولة واجهزتها المختلفة طمعاً بالإستفراد بشأن الدولة أو هدم بنيانها على السكان إن لم يترك لهم لإدارة الوطن على نزواتهم.
ومع تلويح سياسة العصى والجزرة أمام النخب السياسية بحيث توج بعض ممن أبدوا رغبتهم بالتناغم مع العزف الجاري مناصب رفيعة في الحكومة ووزعت عليهم المال البتر ودولار المتدفق من الدول الخليجية بشكل عير مألوف. وفي المقابل قوبل ممن إمتعضوا عن كيفية إدارة البلد أو نددوا على نهج الحكومة، بتعسف سياسي غير معهود في الآونة الأخيرة، خاصة في فترة ما بعد انهيار الحكومة المركزية عام 1991م . هذا الأمر أدى إلى تركيز جل جهود الشرذمة التي سكنت في القصر على خلق وركوب موجات قومية وهمية وواهية محاكاة بموجات شعبوية مماثلة كالتي حدثت في أزمنة سابقة، ولصقت تهم التخوين والشيطنة بكل من ظن أنه يمثل عقبة أمام هذا الحراك—المبارك–كما سموه، أومن لديه القدرات الفكرية والثقافية لدحض حججهم الواهية.
ونتيجة لهذه السياسة الهوجاء التي قامت على تاليه وتقديس شخصية القائد الديماغوجي الشعبوي، و غلق المساحات السياسية والثقافية التي ازدهرت وبلغت أوجها في ظل الحكومات السابقة، إنغمس البلد في صراعات وتجاذبات بين العصبة الحاكمة وبين كل الأطياف السياسية والنخبوية التي نوهت في أول الأمر إلى الميول الاستبدادية الظاهرة من تصرفاتهم الاقصائية، والرافضة على تكوين نظام حكم يحاكي بعض الأنظمة الملكية الموجودة في أماكن متفرقة في العالم.
الشعبوية صارت أيدلوجية تضاهي من حيث التأثير والانتشار كل الأيدولوجيات التي سبقتها في البروز على الساحة السياسية العالمية. ويعرف (كاس مود) الشعبوية بأنها أيديلوجية “تعتبر المجتمع بأنه يمكن تقسيمه إلى مجموعات متجانسة وأخرى معادية، أو بمعنى آخر”الناس الطاهرة مقابل النخبة الفاسدة”، كما تعلل الشعبوية السياسة بأنها يجب أن تعبر الإرادة العامة للناس.” ماعدا السمات الجوهرية للشعبوية، فمن الممكن أن تأخذ أشكال متنوعة ومتعددة.
النماذج الشعبوية الموجودة—حسب دراسة نشرتها جامعة ستانفورد، ويقودها العالم السياسي الشهير فرنسيس فوكويامو—تتراوح ما بين اليمين المعادي للهجرة،مثل فيديز في المجر او ليغا في إيطاليا الى اليسار المؤيد لدولة الرفاه مثل (سريزا) في اليونان او الأغلبية العظمى للحركات الشعبوية في أمريكا اللاتينية. وتوصلت هذه الدراسة إلى أن الشعوبيين يمثلون تهديدا حقيقا للأنظمة الديموقراطية، ويمس خطرهم على الأنظمة بطرق ثلاث:
(1) الشعبويون يضعفون المؤسسات الرسمية مثل المحاكم والمجالس النيابية والهيات الرقابية معتبرين بأنها مؤسسات فاسدة. وإذا فازوا في السباق الانتخابي يخفقون في ضبط أنفسهم، ويسيسون ويفرغون المؤسسات الرسمية من المحتوى الديموقراطي اللبرالي.
(2) الشعبويون يعيدون تعريف الناس بإقصاء—في بعض الأحيان—الفئأت الأكثر ضعفاً او الأقليات الدينية،و العرقية مثل المهاجرين والمجموعات المهمشة اقتصادياً. فصارت النتيجة حكم الأغلبية دون الاكتراث لحقوق الأقليات.
(3) وكذلك وجدت الدراسة بأن الشعوبيين ينشغلون بتعرية المبادئ الديموقراطية الغير الرسمية بتشكيك ولاءات المعارضة، و ينتقصون من قدر النقد كنوع من خبر مزيف لا يستحق الاهتمام به. فبدل التسامح مع الصحافة الحرة والمعارضة السياسية، أشارت الدراسة، هم يحاولون جاهدا بتقويض شرعيتها.
فبالرغم من أن هذه الدراسة أجريت في بلاد متقدمة التي لها أنظمة ديموقراطية فعالة استمر وجودها عشرات السنين—إن لم يكن بمئات السنين—إلا أن نتائجها يمكن تطبيقها على بلدان كثيرة في العالم الثالث التي تعج بخلافات سياسية واثنية ودينية والتي تبحث حلولاً لمشاكلها المرتبطة بصيغ الحكم المناسب، ولكن الشعبويين دائماً ينتهزون الفرص السانحة لابسين عباءات مختلفة، تارة العباءة القومية وتارة العباءة الدينية.
فعلى سبيل المثال عندما وصل الرئيس المنتهية ولايته الي سدة الحكم في مطلع سنة 2017 رافعاً شعارات قومية، ومصوراً لنقسه بأنه المنقذ الذي كانت البلاد تنظره منذ زمن طويل؛ ولكن سرعان ما نكص على وعوده الانتخابية، وظهر على وجهه الشعبوي، فطفق يهدم المؤسسات واحدة تلو الآخر مبتدياً بمجلس النواب بحيث أطاح رئيس المجلس الذي كان يمثل العقبة الرئيسة—على حسب تصوره—أمام أطماع الرئيس الرامية إلي بسط نفوذه على المؤسسات بما فيها مؤسسة البرلمان التي هي أم المؤسسات في الحكومة، تمهيداً لنمط حكم يتماشى مع تصوراته الفردية على كيفية إدارة البلد، بالإضافة إلى تعيين شباب حديثي السن والعهد لشغل مناصب رؤساء المحاكم، والمؤسسات الأمنية والعسكرية تسهيلاً لتمرير وتنفيذ السياسات القمعية للحكومة؛ وكذلك سعى الرئيس إلى إسكات خصومه السياسين بدأ بإلصاق تهم التخوين والعمالة حتى وصل الأمر الى التصفية الجسدية بحيث هاجمت القوات الأمنية على مقرات ومراكز سكن تابعة لشخصيات سياسية مرموقة في المجتمع بمن فيهم رؤساء سابقيين. ولتحقيق الأهداف الرامية الى ترويض وتركيع النخب المختلفة، تم تجهيز جيوش من الذباب الإلكتروني لتأدية هذا المهام عاملين كذراع بروبغندا تختزل مهمتها على تلميع صورة القائد وتقديسه في بعض الأحيان لحد وصفه بالنبي المرسل –كما فعلت، وتفعل، الجماهير المؤيدة لنماذج القادة الشعبوية التي ظهرت في بعض الدول في العالم—وأنه الخيار الأوحد لرغبة الجماهير إفتراء على الشعب المغلوب على أمره ، والذي يكابد ضنك العيش ويرزح تحت لظى نار الغلاء المعيشي الناجم من اخفافات الخطط الحكومية.
فتركيز جهود الرئيس ومجموعته على كسر عظام خصومهم السياسيين بأي ثمن،صرف الانتباه عن تعاطي أولويات مهمة التي كان من المفترض أن توجه إليها الحكومة كل جهودها ووقتها مثل التعامل مع المنظمات الإرهابية المتمثلة بالخطر الرئيسي على الدولة الصومالية برمتها. انتهزت هذه المنظمات هذا التراخي الموجود، وكثفوا جهودهم الهادفة إلى تعطيل الخطط الحكومية للأمن، وطوروا على النوعية القتالية لديهم، ووسّعوا العمليات العسكرية بحيث نفذوا عدة عمليات معقدة على قواعد عسكرية تابعة لقوات حفظ السلام الإفريقية وأخرى تابعة للجيش الصومالي. وفوق هذا كله، وجدوا حرية كبيرة مكنتهم على التغلغل في المجتمع، وفرضوا أتاوات عالية على كل القطاعات ولاسيما القطاعات التجارية التي تدر لهم تحصيلات ضريبة بأرقام فلكية. إضافة الى ذلك أخفق الرئيس في تنظيم عملية انتخابية بصيغة توافقية تجرى في وقتها المحدد مما أدى إلى فشل عدة مؤتمرات عقدت من أجل الوصول إلى صيغة انتخابية تحظىى برضى كل الأطراف حتى أخرج في نهاية المطاف اتفاقية 17سبتمر للانتخابات غير المباشرة؛ ومع ذلك حاول الرئيس أن يضرب الاتفاقية عرض الحائط عبر تمديد مدة صلاحيته التي انتهت في 8 فبراير في السنة الماضبة في قرار أحادي اتخذه بالتواطؤ مع رئيس المجلس النيابي. فبالرغم من قبول الرئيس والرجوع الى اتفاقية سبتمبر بعد المواجهات التي شهدتها العاصمة جراء اتخاذه قرار التمديد، إلا أن البلاد مازالت تجري عملية إنتخابية مشوبة بخروقات إجرائية مخلة لكل المعايير، كما تعد واحدة من أطول وأكثر الانتخابات فساداً على مر التاريخ.
وختاماً: ربما تواجه سفينة الرئيس صخوراً جليدية ستنهي مصيرها إلى الأبد، ولكن الأثر الذي سيتبقى من هذه الظاهرة الشعبوية في قطرنا الصومالي حتماً سيأخذ منا وقتاً طويلاً لإزالته. و لتجنب عودة قادة مماثلة في المستقبل يجب علينا توقيف الشعبويين لدى الأبواب، وتنمية الوعي السياسي الجمعي للمجتمع، وبناء قاعدة نخبة سياسية قادرة على تملك زمام إدارة البلد وقيادته نحو مستقبل أفضل .