توطئة
ما زال بعض الباحثين من منطقة القرن الإفريقي وغيرهم يعتقدون بأنّ الدراسات حول المنطقة عموماً لم تكتمل بعد لا سيما فيما يتعلق بالعصور القديمة والوسطى، على الرغم من ظهور دراسات علمية وبحوث أكاديمية قيمة، بحيث يرونه بأنها تحتاج إلى مزيد من البحث والتنقيب، والاعتماد على الآثار والشواهد والمخلفات التاريخية لكي نصل إلى أقرب صورة صحيحة لتاريخ وحضارة المنطقة عبر العصور المخلتفة.
ومهما كان الأمر فإنني لا أخفي شخصياً بأنني متفائل حول مستقبل الدراسات والبحوث للمنطقة من محيطها الهندي وبحريها الأحمر والمتوسط، ومروراً بجبال نوبا وأعالى ضفاف النهر النيل ، حتى وصولاً إلى جنوب كنانة الله في أرضه في صعيد مصر، علماً أنّه لا يغيب عن دهني الظروف الصعبة التي تمر بالمنطقة من الغليان وعدم الاستقرار السياسي ، بالإضافة إلى هجرة كثير من عقول أبنائها إلى المهجر بحثاً عن الأمن والاستقرار والرغد العيش، ومع ذلك فإنّ الأمل معقود على الباحثين من وجوه الشابة الجديدة ، وكذا المراكز البحثية المتوفرة في المنطقة. وكم كنتُ أرجو أن تتوافر هذه الجهود العلمية والثقافية من أبنائنا في المنطقة، وقد ناديتُ أكثر من مرة في تحقيق ذلك ، ولا زال الأمل معقود في أن يأتي ذلك اليوم إن شاء المولى عز وجل.
ومن المعلوم أن تاريخ منطقة القرن الإفريقي المعروفة في المصادر العربية بالحبشة ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بتاريخ المنطقة العربية في العصور القديمة وما قبل ظهور البعثة النبوية ، كما ارتبط بالتاريخ الإسلامي بدءاً برسالة النبي صلى الله عليه وسلم – إلى سيدنا أصحمة النجاشي – رضي الله عنه – ثم هجرة الصحابة إليها بعد نصيحة المصطفى عليه السلام بقوله : ” اذهبوا إلى أرض الحبشة فإنّ فيها ملك لا يظلم عند أحد ، وهي أرض صدق…” أي أرض أهل الكتاب.
ويدل على ذلك معرفة العرب والعجم لأحوال المنطقة وأخبارها المختلفة ، بحيث لم يأت من فراق تلك النصيحة النبوية لصحابته رضوان الله عليهم عند ما اشتد أذى صناديد قريش وجبروتها، حتى أنّه – عليه السلام – لم يتردد على نصح صحابته الكرام ليهاجروا بدينهم من تلك الأذى إلى أرض الاستقرار والعدل التي فيها حاكم لا يُظلم عنده أحد، وكانت هذه الهجرة في العام 615 من الميلاد، وقد كان ملك الحبشة في ذلك الوقت النجاشي أصحمة بن أبجر بحسب ما ورد في الكتب التاريخيّة التي أرّخت تلك الفترة، وكان الدين السائد ذلك الوقت في الحبشة هو الدين المسيحيّ، وهذا واضح من الحوار الذي أجراه ابن عم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو جعفر بن أبي طالب – رضي الله عنه -. وقد عاش المسلمون المهاجرون في أرض الحبشة فترة من الزمان تحت حكم الملك النجاشيّ العادل الذي ساندهم ودعمهم. كما أنّ أرض الحبشة هي الموطن الأصلي الذي جاء منه الصحابي الجليل بلال بن رباح – رضي الله عنه – مؤذّن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – والحقيقة أنّ تاريخ الحبشة حافل بالحوادث والعبر والمجد والمآسي، ولكن أكثره غامض، وقليله جلي كما قيل من قبل، ويكفينا بأن نشير – وحسب تقديراتنا – إلى أنّ تأريخ حدث هجرة الصحابة إلى أرض الحبشة وأخبار حياتهم خلال مكوثهم في المنطقة لم يكتمل بعد، بل ويحتاج إلى دراسات عميقة وبحوث رصينة تعتمد على المصادر الأولية سواء كانت في المصادر العربية أو المصادر الحبشية وما تبقى من آثار في منطقة القرن الإفريقي والجزيرة العربية…
ونحن سوف نعرض سلسلة من مقالات بسيطة تاريخية عن الحبشة – أرضاً وشعباً – في العصور القديمة والحديثة من خلال التراث العربي بحيث نورد هنا ما تفرق في المصادر الأولية وتفسيرات المؤرخين قديماً وحديثاً عن الحبشة والأحباش في العصور القديمة والإسلامية الزاهية، وأخبار الأوائل مع غربلته ونقده مما لصق به من أوهام وخزعبلات لا قيمة لها، الذي مرده الجهل وقصر النظر. والهدف من ذلك إعادة قراءة تاريخ منطقتنا من جديد وتأصيلها تأصيلاً علمياً بقدر الإمكان دون التعصب والتشنج، وذلك بغية أن نسهم في إظهار بعض الجوانب التاريخية والحضارية لمنطقتنا وعلاقاتها الخارجية في تلك العصور الغابرة عسى أن أفيد وأستفيد من ذلك ، مع علمي بأنّ هذا الطَرِيق وَعر وَسَبِيله صَعْبُ، كَثِيرُ العَقَبات شَدِيدُ المَشقَات، بَعِيدَةُ المَسافَات مع كثرة همومنا ومشاغلنا اليومية، وأسأل الله أن ينعم علينا نعمة الصحة والسعادة في الدارين.
وللحديث بقية…