هذا الكتاب تحفة أدبية للكاتب الأديب الصومالي حسن محمود قرني. وكما يبدو من عنوانه فإنه يغوص في أعماق الماضي؛ ليبرز لنا زوايا غير محكية عن تاريخ بلده، وحضارة أمته، ونهضتهم الأدبية، وأعرافهم، وعاداتهم، وأساطيرهم، وتلك زوايا منسية في ظل الحروب العبثية، وصور المجاعات، وأخبار الجفاف، وحكايا القراصنة التي تتصدّر الشاشات في وسائل الإعلام الدولية، وشكلت صورة نمطية سيئة عن الإنسان الصومالي وتاريخه وحضارته وجهاده وآماله وآلامه، وهي صورة مجحفة جعلت الصوملة قرين الفوضى والهمجية، حتى صار الصومال بعبعاً تخوّف به طغاة العالم شعوبهم، كلما فكروا في إزاحة الظلم عن كاهلهم، واستعادة إرادتهم وحريتهم المسلوبة، مذكرين شعوبهم بمحنة الصومال، ويخيرونهم بين الصوملة التي ترمز إلى الفوضى والخراب في خيالهم الجمعي كمثل الغول عند العرب، وبين قبول تسلطهم واستبدادهم، إنها مأساة إنسانية، وظلم فاضح، وتوظيف مصائب الناس ومحنهم للاستغلال السياسي وسلب حريات الشعوب وحقوقهم وكرامتهم الإنسانية.
“كنت أحث الخطى نحو تاريخ أمتي وأمجادها الضاربة في عمق التاريخ، الألحان الشجية، وأريج اللبان، ورائحة الإبل الممزوجة بالأدب، وتكايا السلاطين، والمدن التي تحاور الثروات، تثير في وجداني مشاعر عتيقة، وتشكل زوايا غير محكية” هذه الزوايا غير المحكية من تاريخ أمتنا هو ما أثار أديبنا حسن قرنى الذي شمّر عن ساعد الجد؛ ليزيل هذه الصورة النمطية القاتمة عن بلده في أذهان الناس، وليكشف للعالم صورة أخرى لبلده مشرقة ومضيئة، رغم كآبة الحاضر، وبؤس المشهد الحالي، ولكي يتم له ذلك شرع في الغوص في الماضي؛ لفض الغبار عن أمجاد هذه الأمة وتاريخها وأيامها، ويحفر عميقاً للكشف عن الآثار المطموسة، والتاريخ المنسي، والذاكرة المدفونة، تحت مآسي الحاضر، وويلات الحروب. ويبدو أن الأديب حسن قد وظف تخصصه الجيولوجي في حفرياته في الذاكرة الجماعية لأبناء شعبه، ومن يفهم طبيعة الأرض، وطبقاتها وصخورها، وما تخفيه من الكنوز والمعادن في باطنها، فحريّ به أن يكون فهمه للإنسان أعمق، وحفرياته في ذكرياته أدق، وسبره في غور تاريخه وحضارته أبعد مدى.
فالكتاب ممتع حقاً، وقد استمتعت بقراءته، وهو مزيج من الأدب التاريخي السياسي، وأدب الرحلات. ويعرض لحركات الجهاد الذي شنه أجداده ضد أطماع الغزاة، حتى نالوا الاستقلال بدماء الشهداء، ويتناول كذلك نشوء الدولة بعد الاستقلال، وما رافقها من النشوة وتطلعات الشعب في تحقيق آماله التي تكسرت على صخرة فساد النخبة السياسية الحاكمة وسوء إدارتهم، وخيبت آمالهم، وإعادتهم إلى مربع الصفر، بعد تجربة مليئة بالإخفاقات، وبعض النجاحات القليلة، حتى أنهار بناء الدولة على رؤوسهم، ودخلت البلاد في مستنقع الحروب الأهلية، والانتحار الجماعي، وتفرق الشعب شذر مذر تائهاً في صحراء العدمية. ويسجل الكاتب كذلك رحلاته في داخل بلاده وفي أدغال القارة الإفريقية.
وأول ما لفت ذهني عندما شرعت في قراءته هو هذه السردية العجيبة الجميلة، واللغة الأدبية الرصينة، والأسلوب الرشيق، والإحساس المرهف، والنفس الشاعرية، والخيال الواسع، والذكاء المتوقد، والربط ما بين الأحداث والذكريات بلغة سلسة أدبية، تبعث في الأحداث التاريخية الجامدة روحاً حية يتفاعل معها القارئ، وكأنه يعيش في أحداثها، ويشنف أسماعه بأسمارهم الأدبية الماتعة في لياليهم المقمرة، ويرى بعينيه بطولات أجداده ورحلاتهم في الأرض طولاً وعرضاً؛ بحثاً عن الحياة، وعن الحرية، والعزة، ويشم روائح الفحولة الأصيلة، وعبق الذكريات المجيدة، وشذا عرف حكايات الجدات، ونفح طيب الغانيات، والمسك الذي يفوح من أعطافهنّ وأردانهنّ.
فهذا هو الفرق بين كتابة التاريخ بسرد أحداثها ووقائعها، منفصلة عن المشاعر والأحاسيس الإنسانية، وبين كتابتها من خلال بثّ الحياة في وقائع الأحداث، وتصوير ما اكتنفها من المشاعر والعواطف الإنسانية، ووصف الطبيعة، والإنسان، وطبيعة الحياة، وعادات المجتمع وأعرافه ودينه التي شكلت تاريخه وحضارته، كما فعل كاتبنا هنا، فالأولى جامدة منبتّة عن الخلجات الإنسانية، والثانية حية قوية متصلة بأرواح الشعوب وأعماق وجدانهم.
فالفكرة المركزية في الكتاب هي لعنة حرب الكل على الكل التي ابتليت بها بلاد الكاتب منذ طفولته، وحرمته من الحياة الطبيعية، والسكون النفسي، والطمأنينة الروحية، وسلبته مما سلبته براءة الطفولة، وشاهد منذ نعومة أظفاره مشاهد البؤس والحرمان والضياع. ويرى الكاتب أن الحرب الأهلية في بلده عدا ما حصدته من الأرواح، فإنها قد أثّرت عميقاً في نفسيات المجتمع، وغيّرت من طباعه، وبدّلت من سلوكه وأخلاقه، ويقول مصورا ًذلك في نص جميل من مقدمة الكتاب “انهارت الدولة، وانزلق الصوماليون نحو حروب أهلية، أثّرت عليهم، وغيرت طبيعتهم، ومستقبلهم، وشكلتهم على نحو جديد لم يألفوه، وعاشوا مع أمراض نفسية وجسدية، ونتج عن ذلك مآسي وحكايات لم ترو بعد، وقصصاً لم يكتب، بل ظلت محمولة وقابعة في الذاكرة، وتنتظر قلما ينقلها من السياق الشفهي إلى التدوين، وهذا ما أردناه عبر صفحات هذا الكتاب، الذي حاولت قدر الإمكان أن يقدم للقارئ، وعبر زوايا مهملة، وغير محكية الوجع الصومالي، ونضالهم عبر القرون، والحروب الأهلية، وتأثيرها على الحياة” (ص٦)
هذا تلخيص جيد لفكرة الكتاب التي تدور على ما سمّاه الكتاب بالحديث عن الوجع الصومالي، ونضالهم عبر القرون، والحروب الأهلية وتأثيرها على البلاد، فصفحات الكتاب كلها بسط لهذه الفكرة المركزية: الوجع الصومالي الحاضر للأحفاد مرتبط بماض مشرق حافل بالنضال والجهاد والبحث عن العزة والحرية والكرامة. ويرمي الكاتب من خلال هذه العودة إلى الماضي أن يبدّد سحب اليأس الذي ران على نفوس أبناء شعبه، وأن يبث فيهم روح الأمل بمستقبل أفضل، فإن عظمة الأمم لا تقاس بحاضرها فقط، وإنما تكتسب عظمتها فيما تختزنه من الذاكرة الجمعية الجميلة في ماضيها، وفيما أنجزته من البطولات والنضال، وفيما أنجبته من العباقرة والرموز الوطنية الذين قادوها إلى انتصارات مشهودة، ارتفعت فيه الأمة عن سفاسف الأمور، وعن النعرات القبلية، وسجلوا في صفحات التاريخ ملاحم خالدة، لن يمحوها الدهر، ولا يعف أثرها معاناة الحاضر، وقتامة الأحداث اليومية. وهكذا يلجأ كاتبنا الأديب إلى الماضي ليس للافتخار بالعظام البالية، ولا بالزهو بالعظمة الداثرة، وإنما ليجعله متكأ يسند به ظهره، لبناء الحاضر، واستشراف المستقبل.
ومما لفت انتباهي وأنا اقرأ هذا الكتاب طرافة العناوين التي اختارها الكاتب لمباحث كتابه: (لا أحد يعود من الحرب كما كان، وجروح لا تندمل، وجذور تقاوم السقوط، إنهم لا يعرفون كيف يضحكون، أدب برائحة الإبل!) فهذا يدل على أن أديبنا حسن يمتلك موهبة عجيبة في نحت الألفاظ، وتصرفها كما يشاء، وصوغها بمعان لم يسبق إليه من قبل، محمّلة بالإيحاءات الجميلة، فانظر إلى قوله (آدب برائحة الإبل) فهذا معنى بديع جميل، لا يتأتى إلا لمن له ملكة لغوية عجيبة، وخيال فني رفيع، وذوق أدبي راق.
والكتاب كما أسلفنا ذكره ما خلا موضوعات الأدب التاريخي السياسي، يتضمن كذلك موضوعات من أدب الرحلات، يسجل فيه أديبنا رحلاته في ربوع وطنه، وفي خارج بلاده من القارة الإفريقية، فهنا تظهر عبقريته في الوصف والتصوير والتأمل؛ اِذْ يرصد أحوال الناس، وطبائعهم، وعاداتهم، وأعرافهم، وتقاليدهم، ويكتب عن ذلك كله بحيادية تامة، وبروح إنسانية، تتعالى على النظرة النمطية السائدة في كتابات كثير من الرحالة الأوربيين والعرب، عندما يكتبون عن القارة السمراء. فالكاتب يعشق الرحلات، ويرى فيها نوعاً من الحرية، والسياحة، والهروب من أجواء الحروب الضيقة، إلى السياحة في الآفاق الممتدة (الترحال يعطيني هامشاً من الحرية، ومساحة للتفكير، إنه يخرجني من الفضاء الضيق إلى رحاب المعمورة .. وكلما أبتعد عن دياري، يتسع العالم من حولي .. أسافر لأداوي جروح الحرب بالكتابة) ص ٣٦.
ومن المفارقة أنه على الرغم من أن أديبنا حسن ذكر أنه يهرب إلى الرحلات؛ لنسيان ضغوطات الحرب، وإكراهات الواقع المرير، إلّا أنه مع ذلك كله تراه لا ينفك يحمل همّ بلده في جميع رحلاته، فكل ما تراه عينه في رحلاته من آلام الناس، وآمالهم، وطبائعهم، يذكّره ببلده، ويقارنه بمأساة وطنه. ففي رحلته إلى رواندا كان معجباً بهذه التجربة، وكيف أن شعباً عانى من الحروب والقتال مثل معاناتهم، استطاع أن يتغلب على ذلك، ويطوي صفحة الماضي المليئة بالكراهية والانقسام والإبادة، ويفتح صفحة أخرى جديدة، مشرقة، يحدوها الأمل، متجاوزة أحقاد الماضي، وأحلت السلام محل الحروب، والبناء مكان الدمار، والتعمير بدل التدمير، والحب ضد الكراهية، والتسامح محل الأحقاد. يرى أديبنا هذا كله، ويتذكر مأساة بلده، ويصرخ صرخته المدوية: أما لنا أسوة في إخواننا الأفارقة؟ أما لهذا الجنون في بلدي من نهاية؟ وهكذا نراه حتى في رحلاته ألتي خيل إليه أنها تنسيه معاناة وطنه، ويجد فيها بعض التسلية، تتحول إلى ذكريات مؤلمة، وتثير في نفسه كوامن اللوعة والحزن.
والعودة إلى ذكريات الماضي تجعل الكاتب أحياناً يشعر بالغربة في هذا العصر الذي يعيش فيه، ولا يشبهه ولا يمثل شيئاً من آماله وطموحاته، ويقول في ذلك: “يعذبني الواقع بوخزاته، فأتهرب من القرن الذي أعيش فيه إلى قرون ماضية، كانت الحياة أجمل، والأحلام أنصع، فكرياً أنتمي إلى بدايات القرن العشرين، قرن الطموحات والتغيرات الجبارة، وتحقيق الأحلام الكبيرة، وصراع الأفكار … إنني أعيش قرناً لا يشبهني ولا يثيرني بل لا يغريني، وأشعر بغربة شديدة ..” (٨٧). وفي تضاعيف الكتاب نلمس الشعور القوي للكاتب، وإيمانه الراسخ بالصومال الكبير، فهو يرى أن الاستعمار قد قطع بين أوصال بلاده؛ نكاية لهم على مقاومتهم الشرسة ضد طموحاته في احتلال بلادهم. ولا يصعب علينا فهم هذا الشعور القوي، وخاصة إذا عرفنا أن الكاتب نفسه من منطقة (أوغادين)الصومالية التي اقتطعها الاستعمار البريطاني من الصومال الكبير، وألحقها قسراً بالدولة الإثيوبية، والكاتب لا يعترف بهذه الحدود الوهمية المصطنعة، ويعتبرها تزويراً للحقائق وتزييفاً للتاريخ، ولذلك نحس في كتاباته هذه المشاعر القومية الصادقة التي ترفض التجزئة والتبعية، وهذا الطموح القوي للصومال الكبير، كشعب موحد متصل الأراضي، غير مشوه المعالم، كما كان قبل الاحتلال الأوربي.
ويكتب الكاتب نصاً جميلاً معبراً عن صدمته من هذه التجزئة المفروضة على بلده (كنت أعتقد في صغري، وأنا أختلس السمع، وأصغي مساء إلى أحاديث الجدات الطاعنات.. أن بلدي يمتد من تخوم مدينة (مينجي) في بلاد (مكامبا) وتحديداً يبدأ جنوباً من مدينة “أوكاسي” المجاورة لنهر “تانا” ليمتد شمالاً حتى يصل إلى جبال “دميرا” في تخوم إرتيريا، ومن رمال المحيط شرقاً إلى هضبة الحبشة غرباً، وعندما كبرت وواجهت الحقيقة، وانتهت البراءة، كانت الصدمة! فبلادي لا تتجاوز ثلث ما كنت أحلم به، والثلث نفسه في طريقه إلى التجزئة) (ص١٤٠). ونلمس شعور هذه الصدمة في كل ما يكتبه الكاتب من الكتب والمقالات التي تؤكد موقفه الثابت في رفض فرض الأمر الواقع، واستحالة الخضوع للإملاءات الإمبريالية.
الكاتب الأديب الأستاذ حسن قرنى أديب صومالي يحمل رسالة إنسانية، ويوظف أدبه من أجل إبراز آلام الإنسان، وآماله، وطموحاته، وتطلعاته، ومن خلال ذلك يغوص في أعماق تاريخ بلده، وثقافته، ويستخرج منها اللآلي والدرر، التي رانت عليها قرون من الإهمال، والغفلة، والاستعمار، فهو بذلك يصل حاضر الأمة بماضيها، بكل ما لهذا الماضي من تاريخ وعادات وتقاليد وحضارة وتراث، لأنه يدرك أن أمة منبتّة عن ماضيها غير جديرة بأن يكون لها مستقبل مشرق، وأن أمة لا تاريخ لها في عمق الماضي، كشجرة لا جذور لها، اجتثت من فوق الأرض فلا يكون لها قرار. ويدرك المستعمر أهمية هذا الماضي، فلذلك يكون أول ما يقوم به في بلد بعد احتلاله أن يطمس صلة هذه الأمة بماضيها الذي يمنحها القوة والتاريخ والانتماء، ويعصمها من الذوبان في تاريخ المحتل وحضارته. وهنا يخوض الاستاذ حسن معركة مقدسة ضد هذا المسخ والعبث، وبنفضّ الغبار عن رسوم الأطلال التي عفاها كيد الأعداء وغفلة الأصدقاء. والأدب عند الأستاذ حسن ليس أداة للهو والتسلية وتزجية الفراغ، وإنما هو رسالة مقدسة، تثري الحياة الإنسانية، وتجعل لها عمقاً إنسانياً خالداً، يتجاوز الانتماءات الضيقة من البيئة والمكان والزمان، فهو بذلك أدب خالد بخلود الإنسان، يعرض قضاياه ومشكلاته، ويحلل نفسيته وطبائعه البشرية التي لا تتغير على مدى العصور.
كان أول لقاء لي مع الأديب الصومالي حسن قرني في نيروبي في العام الماضي. خضنا في أحاديث أدبية كثيرة: روايات، قصص، أدب رحلات، وتحدثنا عن شخصيات أدبية قديمة ومعاصرة: الجاحظ والتوحيدي والعقاد ونجيب محفوظ وسيد قطب وطه حسين والرافعي وتوفيق الحكيم. وكنت أظن أن الأستاذ قرنى متخصص في الأدب، لكنه فاجأني إنه متخصص في علوم الجيولوجيا، فقلت له: إن كنت غير متخصص في الأدب وتكتب كل هذا الجمال، فهذا يدل على أنه لديك موهبة فطرية في الكتابة، وإحساس جبلي بالجمال. سررت بلقائه، واستمعت بالحديث معه، فحديثه شيق لا يملّ مع تقارب الاهتمام. والأستاذ حسن بطبيعته فنان يحب الفن، وجميل يعشق الجمال، وأديب مولع بسحر الكلمة. احبّ كتاباته وأرى فيها الإبداع. قلت له: إن سيد قطب تنبأ لنجيب محفوظ أنه سينال الجائزة العالمية في الأدب، ولو كان لي أن أتنبأ، فإنني أرى إنه سيكون لك شأن عظيم في عالم الأدب والكتابة، وستنال جوائز عالمية بإذن الله، وجدت الطريق فالزم، وأرجو لك مزيداً من التألق والإبداع.