هذا الموضوع ناقشتُ مفصلاً في كتابي ” العلاقة بين القرن الإفريقي والعالم الخارجي في العصور القديمة والإسلامية “1، وقد أشرتُ إلى بعض الكتابات الحبشية التي دلت على أنّ المملكة الأكسومية الحبشية كانت تحكم بلاد اليمن، وذلك من خلال اللقب الذي كان يتلقب به الملك الحبشي: ” ملك أكسوم وحمير وريدان وسبأ وصالحين “، مما يدل على أن اليمن وما جاورها من أرضين كانت خاصعة للحبشة، وذلك لسهولة الوصول للسفن الحبشية إليها وإنزال الجنود بها. وقد ربط بعض الأخباريين دخول الأحباش بأرض اليمن بحادثة قتل أهل نجران، وذلك عند ما قام ذو نواس2، بمجزرة عدداً من نصارى نجران، الذين كانوا تحت حكمه؛ لأنّ مملكة أكسوم كانت الوحيدة في المنطقة التي تدين بالنصرانية. ويقال إنّ سبب دخول الحبشة في الدين النصرانية هو أنّ أحد الملوك الأحباش كان قد دخل في النصرانية بتأثير المبشر البيزنطي – أي الروماني – الذي أرسله إليه الامبراطور البيزنطي في منتصف القرن الرابع، ثم بعد ذلك فرض الملك الحبشي على شعبه النصرانية وأعلنها ديانة رسمية لممكته كما جعلها الديانة الرسمية للعربية الجنوبية. ومن هنا بلغ ما قام به ذو نواس إلى مسامع ملك الحبشة النصراني، وذلك عند ما وصل إلى مقر الملك أحد الناجين من مجزرة ذو نواس، وأتاه بالإنجيل قد أحرقت النار بعضه، فقال له الملك: الرجال عندي كثير، وليست عندي سفن، وأنا كاتب إلى قيصر أن يبعث إليّ بسفن أحمل فيها الرجال، فكتب إلى قيصر في ذلك وبعث إليه بالإنجيل المحرق ليثير عاطفته، فبعث إليه قيصر بسفن كثيرة عبر فيها البحر ودخل اليمن. ويقال أنّ أحد الناجين وصل مباشرة إلى مقر قيصر صاحب الروم فاستنصره على ذي نواس وجنوده وما فعلوه نصار نجران، فقال له قيصر: بعدك بلادك من بلادنا ونأت عنا، فلا نقدر على أن نتناولها بالجنود، ولكني سأكتب لك إلى ملك الحبشة فإنه على هذا الدين – أي دين نصارى – وهو أقرب بلادك منا، فينصرك ويمنعك ويطلب لك بثأرك ممن ظلمك. فكتب معه قيصر إلى ملك الحبشة يذكر له حقه وما بلغ منه ومن أهل دينه، ويأمره بنصره وطلب تأثره ممن بغى عليه وعلى أهل دينه. فلما بلغ كتاب قيصر إلى النجاشي بعث سبعين ألفاً من الحبشة، وأمر عليه رجلاً من أهل الحبشة يقال له أرياط، فركب جنود الحبشة البحر حتى نزلوا بساحل اليمن. وعند ما علم ذو نواس الأمر طلب حمير ومن أطاعه من قبائل اليمن، فاجتمعوا إليه على اختلاف وتفرق لانقطاع المدة وحلول البلاء والنقمة، فلم تكن له حرب، غير أنه ناوش ذا نواس شيئاً من قتال، ثم انهزموا ودخلها أرياط بمجموعه. فلما رأى ذو نواس شيئاً من قتال، ثم انهزموا ودخلها أرياط بمجموعه. فلما رأى ذو نواس ما رأى مما نزل به وبقومه، وجّه فرسه إلى البحر وفرّ، فكان آخر العهد به، ووطئ أرياط اليمن بالحبشة، فقتل ثلث رجالها وأخرب ثلث بلادها وبعث إلى النجاشي بثلث سباياها، ثم أقام بها. 3
والحقيقة أنّه لا يستغرب بذلك لأنّ الحبشة كانت لها علاقة حميمة مع الرومان قبل هذه الفترة بحيث كانت للمملكة الحبشية صلات تجارية بالرومان عند ما فتحوا بلادهم للمصنوعات الرومانية النفيسة. 4
وقد ساعد على ذلك العبور قرب المسافة بين ساحل الحبشة ومدينة غلافقة – وهي ساحل زبيد من أرض اليمن – بثلاثة أيام عرض البحر بين الساحلين ومن هذا الموضع، حتى عند ما سيطر الحبشة على زمام أمور اليمن لم تتوقف هذه العلاقة والاتصال بين الجانبين عبر العصور المختلفة، بحيث كان يجري دائماً التأثير والـتأثر في أكثر من ميدان وليس في ميدان السياسة والاقتصاد فقط.
وقد أشار القرآن الكريم حادثة أصحاب أخذوذ في سورة البروج، وقال تعالى:( قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ، النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ، إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ، وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ). [رقم الآية،4-7 ].
ويستنبط مما سبق أنّ المملكة الأكسومية الحبشية كانت تحكم بلاد اليمن وما جاورها من أرضين، بحيث كانت خاضة لهم، وذلك من خلال اللقب الذي كان يتلقب به الملك الحبشي كما سبق ذكره من قبل، بالإضافة إلى العلاقة الحميمة بين الطرف الروماني والطرف الحبشي، والحقيقة أنّه لا يستغرب في ذلك، لأنّ الحبشة كانت لها علاقة حميمة مع الرومان قبل هذه الفترة بحيث كانت للمملكة الحبشية صلات تجارية بالرومان عند ما فتحوا بلادهم للمصنوعات الرومانية النفيسة. 5
المصادر والمراجع
[1] – انظر كتابنا ” العلاقة بين القرن الإفريقي والعالم الخارجي، دار الفكر العربي، القاهرة، 1442ه/2021م، ص 25.
2 – ذو نواس: اسمه زرعة بن يوسف ملك اليمن ثم تهود ودان باليهودية ، ودعا الناس إليها فلم يرض من الناس إلا اليهودية أو القتل، وهو صاحب الأخذود والقصة في سورة البروج. انظر ابن حبيب، أبو جعفر بن أمية بن عمرو الهاشمي البغدادي (ت 245): كتاب المحبر، اعتنت الدكتورة الآنسة إيلزه ليحتن شتيتر، مطبعة جمعية دائرة المعارف العثمانية ، سنة 1361هـ/1943م، ص 368.
3 – الطبري ، أبو جعفر محمد بن جرير ( ت 310هـ ): تاريخ الرسل والملوك، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط/2، دار المعارف ، القاهر- مصر، 2/123- 105؛ ابن قتيبة، أبو محمد عبد الله بن مسلم ( ت 276هـ): المعارف ، تحقيق ثروت عكاشة، ط/4، دار المعارف، القاهرة، ص 637؛ وانظر الدكتور علي، جواد: المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام، الطبعة الثانية، 1413ه/1993م 3/ 455- 458.
4 – علي، جواد: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ، المرجع نفسه، 3/ 455 – 458
5 – علي، جواد : المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، المرجع نفسه، 3/ 455.