معرفة العرب بأرض الحبشة
لا يعرف متى بدأت علاقة العرب بالقسم الجنوبي من البحر الأحمر والتي اشتهرت باسم الحبشة، غير أننا نعرف بأنها كانت قديمة ، وأن العرب كانت لديها معرفة وافية عن الحبشة أرضا وشعبا لم تقتصر على نمط معين، وإنّما كانت على أوجه مختلفة. وإذا أخذنا الجانب الاقتصادي فنستطيع القول بأنّ الحركة التجارية بين الجزيرة والعربية وبلاد الحبشة كانت تتزايد، وقد اقتضى هذا التزايد في توطيد العلاقات بين الجانبين ، بحيث طمأن كل طرف للآخر. وقد لعب السبئيون دوراً كبيراً بإنشاء وتطوير علاقات تجارية مع منطقة الشرق الإفريقي، وذلك عند ما قاموا بتكوين أسطول بحري كبير يشتغل في التجارة، وكان السبئيون متفوقين في فنّ الملاحة، وكل ما له علاقة بالشؤون البحرية، ومن خلال ذلك استطاعوا أن يجعلوا لليمن موانئ مزدهرة مثل موانئ عدن، ومخا، وموسكا، وقنا وغير ذلك، ولا غرابة في ذلك؛ لأنّ السبئيين كان لديهم معرفة تامة بمواقيت هبوب الرياح الموسمية واتجاهاتها، واستفادوا من ذلك في الإبحار بسفنهم على طول سواحل شرق إفريقيا، وجزر البحر الأحمر ، بل ونجحُوا في الدوران حول القرن الإفريقي إلى ما بعد رأس غوار دفوى.
ولم يكن السبئيون وحدهم الذين اهتموا بالعلاقات التجارية مع منطقة القرن الإفريقي، وإنّما هناك أيضاً دولة القتبان اليمنية، والتي كانت لها كذلك علاقة مع سواحل القرن الإفريقي، حيث كان للقبتانيين نشاط كبير في تجارة البخُور ومختلف أنواع التوابل كاللبان والمر، وامتدّ نشاطهم التجاري إلى ساحل الشرق الإفريقي، بل أدى بهم اهتمامهم الشديد بتجارة البخور إلى محاولة السيطرة على مناطق إنتاجه على الساحل الصومالي خلال القرن الأول ق. م ، عندما كانت الدولة القتبانية في أوج عزّها بحيث تزايد نفوذها حتى أصبحت تُسيطر على الركن الجنوبي الغربي للجزيرة العربية بالكامل، وتبعاً لذلك تحتكر إنتاج البخور بالمناطق الجنوبية الغربية، كما سيطرت على محطات توزيعه.[1]
وعلى غرار السبئيين والقتبانيين كان للأوسانيين أيضاً دور كبير في نشاط تجارة البخور بين شبه الجزيرة العربية وشرق إفريقيا بفضل سيطرتهم على الأجزاء الساحلية من الركن الجنوبي الغربي لشبه الجزيرة العربية موصلين نشاطهم التجاري إلى أماكن مختلفة في سواحل إفريقيا الشرقية خلال فترة ما قبل القرن الرابع ق. م.([2])
وكما ييدو فإنّ محاولات العرب الجنوبيين للسيطرة على مصادر البخور في منطقة القرن الإفريقي كان متكرراً، حيث دفعت تجارة البخور سكان جنوب شبه الجزيرة العربية إلى محاولة ضم مناطق إنتاجه بالساحل الصومالي حتى لا يكون موضع المنافسة للبخور الذي تنتجه أراضيهم، وكانوا يطلقون على بخور الصومال اسم ” بخور الشاطئ البعيد ” فكان يتم شحنه مع السلع الإفريقية الأخرى بالسفن المتوجهة إلى جنوب شبه الجزيرة العربية، ومن الواضح أنّ الغرض من ذلك هو إعادة تصدير هذه السلع من موانئ اليمن، وبذلك يحكمون قبضتهم على السلع الإفريقية وخاصة البخور فلا يكون وسيلة لمنافسة البخور العربي.([3])
وقد ذاعت جودة البخور المتواجد في منطقة القرن الإفريقي ولا سيما البخور الصومالي المنتشر في مناطق شمال وشرق البلاد في أكثر من موقع في العالم القديم، بحيث لم يكن عرب جنوب الجزيرة وحدهم يهتمون له، بل ترجع أهمية بلاد بونت لدى المصريين القدماء إلى أنّها كانت مصدراً للبخور الذي كانوا يستعملونه في الاحتفالات والشعائر الدينية، يُضاف إلى ذلك أنّ المصريين كانوا يعتقدون أنّهم من نفس السلالة التي يتألّف منها شعب بونت. وكانت علاقة المصريين ببلاد بونت ذات طابع فريد، فالنصوص المصرية تتحدث عن روابط المودّة التي تربطهم بسكان هذه البلاد.([4])
وربما كانت تجارة البخور أحد الأسباب التي دفعت الدولة السبئية إلى إرسال جماعات إلى الساحل الإفريقي لإقامة محطات تجارية يكون هدفها تأمين الطريق التجاري البحري، والسيطرة على تجارة البخور ومناطق إنتاجه.
غير أن العامل الاقتصادي وما يتعلق به لم يكن السبب الوحيد الذي أذى إلى العلاقة الوطيدة بين الساحلين ، بل أن عرب جنوب الجزيرة قد اعتادوا أن يجدوا في الساحل الإفريقي ملجأ ومنفذاً يفرون إليه من ظروف الحياة القاسية التي تميزت بها طبيعة بلادهم ، وأساليب الحياة فيها ، لذلك كانوا يجدون فيه فرصاً كثيرةً بكسب الرزق باحتراف التجارة وسائر المهن المختلفة [5] ، حتى تكونت تجمعات عربية في المنطقة . ولم يأت من فراغ نصح الرسول – صلى الله عليه وسلم – أصحابه -في بدايات البعثة النبوية – الذهاب إلى أرض الحبشة لأن العرب ولاسيما قريش منهم كان لديهم معرفة كاملة للحبشة وتعود بالسفر إليها حتى صارت سوقاً ومتجراً لهم يتجرون فيها ، ويجدون فيها رفاغاً من الرزق ، وروّاجاً لتجارتهم[6].
إذاً أن معرفة العرب بأرض الحبشة ولإحاطة خبرها مهد للمسلمين الطريق إليها ، بل وسهل دخول الإسلام وانتشاره في المنطقة عموماً.
[1] – انظر كتابنا ” العلاقة بين القرن الإفريقي والعالم الخارجي في العصور القديمة والوسطى، المرجع السابق، ص 22.
[2]) سمسم ، محمد عبد المعطي: العلاقات بين شبه الجزيرة العربية والحبشة منذ القرن السادس ق.م. ، وحتى نهاية العهد الحبشي باليمن، رسالة ماجستير في التاريخ القديم من قسم الدّراسات العليا التاريخية والحضارية ، غير منشورة بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية، جامعة أم القرى بمكة المكرمة، السعودية، عام 1410ه، ص 129 – 131
[3]) أسامه، محمود عبد الولي: تجارة البخور جنوب شبه الجزيرة العربية في الفترة من القرن العاشر حتى نهاية القرن الأول قبل الميلاد، رسالة ماجستير في التاريخ والحاضارة، غير منشورة جامعة الزقازيق، القاهرة ، عام 2013م، ص 132، وانظر عبد المنعم، عبد الحكيم سيد: البحر الأحمر وظهيره، المرجع السابق ص 576
[4]) عبد المنعم، عبدالحليم سيد: البحر الأحمر وظهيره في العصور القديمة، مجموعة بحوث نشرت في الدوريات العربية والأوبية، ، دار المعرفة الجامعة ، الاسكندرية ، يناير عام 1993م، ص 15، وانظر Muxamed Ibrahim Muxamed ( Liiq Liiqato): Taariikhda Soomaaliya ( Dalkii Filka Weynaa ee Punt), Muqdisho febraayo 2000, P 16.
[5] – بشير أحمد صلاد : التاريخ السياسي لسلطنة عدل الإسلامية في القرن الإفريقي ( 818هـ ــ 1410م ) ، جامعة الدول العربية ، قسم البحوث والدراسات التاريخية ، ذي القعدة 1407هـ ، أب 1987م
[6] – الطبري ، محمد بن جرير ( ت 310هـ) : تاريخ الملوك والأمم والرسول ، تحقيق محمد إبراهيم أبو الفضل ، طبعة دار المعارف القاهرة 1961- 1962م 2/328هـ