المقدمة :
تواجه الصومال حاليا موجة جفاف جديدة عمت كافة أرجاء البلاد، نتيجة تأخر الأمطار الموسمية في عدة مواسم متتالية، إذ يواجه ما يقارب سبعة ملايين من المواطنين شبح المجاعة، ويعيشون في أوضاع مزرية من جرّاءِ تفاقم الجفاف، ما أدى إلى نفوق أعداد كبيرة من المواشي لتكون النتيجة نزوح كثير من الناس من المناطق الريفية إلى تخوم المدن وضواحي العاصمة. والواقع أن مشكلة الجفاف باتت تلازم الصومال بين الفينة والأخرى، مما خلق وضعا جديدا في التركيبة المجتمعية وسط تحولات ديموغرافية وموجات متكررة من النزوح الداخلي والهجرة الخارجية وبمعدّل مرتين في كل خمس سنوات، مما ينعكس سلبا على عوامل الاستقرار والسلم الاجتماعي ومسارات التنمية والتنمية المستدامة في البلاد. وبما أن الصومال بلد يعاتي من هشاشة النظام وضعف في أداء مؤسسات الحكومة، فاستراتيجية الوقاية ومجابهة أخطار الجفاف تبدو محدودة إن لم تكن منعدمة. وفي ظل هذه التحديات العالمية التي تتزايد فيها اهتمام الدول القوية بضرورة إيجاد إستراتيجيات للأمن الغذائي والحد من ظاهرة التغير المناخي، تظل الصومال في هيئتها الحالية عرضة لأزمات متلاحقة تضعّف حاجتها إلي تلك الإستراتيجيات.
أسباب تكرار الجفاف:
تتعدد الأسباب التي تؤدي إلى حدوث الجفاف وأهمها تغير أنماط الطقس نتيجة تركز الحرارة على سطح الأرض، مسببة انخفاضا في تكثف السحب في الجو، مما يؤدي إلى ارتفاع نسبة التبخر، وكذلك انخفاض كمية هطول الأمطار الموسمية. أشار التقرير إلى ذلك يفاقم الإنسان الآثار المصاحبة للجفاف عبر استخدامه المخل للنظام البيئي مثل قطع وحرق الأشجار في الغابات، والرعي الجائر، ووسائل زراعية رديئة تؤدي إلى عدم امتصاص التربة للمياه، كما أن الأساليب غير الصحيحة المتعلقة بالمحافظة على التربة عادة ما تؤدي بها إلى التعرية.
الأوضاع الإنسانية الراهنة:
حسب تقرير الحالة لمكتب التنسيق للشئون الإنسانية التابع للأمم المتحدة أن الجفاف شمل كل الأقاليم والمحافظات حيث تعد ولايتي جلمدغ وجوبالاند من المناطق الأكثر تضررا من الجفاف، وذلك بسبب تذبذب الأمطار الموسمية وعدم انتظامها، وتواجه معظم محافظات هاتين الولايتين خطر المجاعة، ونقصا في المياه، وعدم قدرة النازحين الوصول إلى أماكن توافر المياه. وفي ولاية جلمدغ، أشار التقرير بأن النزوح بدأ في وسط شهر يناير الماضي حيث نزح أكثر من مئة وثلاثين ألفا إلى مناطق متفرقة من هذه الولاية بعد نضوب أو تهدم الآبار التي كانت تمثل مصدر مياههم الوحيد، كما تعد مناطق متفرقة في كل من ولايتي جوبالاند وجنوب الغرب من المناطق الأشد تضررا بآثار هذا الجفاف الحالي. وتشهد هاتين الولايتين أيضا تدفق آلاف الأسر من مناطقهم الأصلية إلى حواضر المحافظات وأماكن الإيواء للنازحين، والتي تعدّها الهيئات العاملة في المجال الإغاثي والإنساني مع السلطات المحلية، كما أن الوضع بدأ يزداد سوءا بسبب تفشي وباء كلورا ومرض الحصبة في أجزاء مختلفة من البلاد. ففي سياق متصل ذكرت بعض التقارير: أن أكثر من مئة وثلاثين طفلا لقوا حتفهم في مخيمات النازحين في مدينة بارطيري، كما ظهرت حالات أخرى تشتبه بأنها متصلة بمرض الحصبة في ولاية هرشبيلي، تحديدا في مدينة بلعد.
النداءات الرسمية لمجابهة الجفاف:
لقد أكد الرئيس الصومالي الجديد السيد: حسن شيخ محمود في خطابه أثناء استلام السلطة أن إدارته عازمة على مجابهة المجاعة المهددة لحياة الملايين من مواطنيه، كما أرسل نداء رسميا عاجلا للعالم لإيصال مساعدات طارئة إلى المتضررين والمحتاجين. وبهذا الخصوص، جعل الرئيس مسألة تفادي آثار الجفاف واحدة من أهم أولوياته على المدى القريب، إذ عين الرئيس السيد: عبد الرحمن عبد الشكور ورسمي مبعوثا خاصا له في الشأن الإنساني استنادا إلى كفاءته وقدراته في تنسيق المعونات الإنسانية وتسخيرها نحو الأهداف المرصودة.
وفي إطار مساعيه الرامية للحد من آثار الجفاف واحتواء الموقف، أكد المبعوث الخاص بأنه قد شر ع مهامه، وأجرى مقابلات مع اللجنة الوطنية لمجابهة الجفاف، والوزارات المعنية في الأمر، والهيئات والمنظمات الأممية للوقوف على الأرقام الحقيقية للمتضررين بالجفاف والمحتاجين لإغاثات عاجلة، كما أكد المبعوث بأن أكثر من ستة ملايين ومائة ألف شخص تضرروا بالجفاف، وبحاجة ماسة إلى مساعدات طارئة، وأن ما يقرب من مليونين وثمانمائة ألف شخص تلقوا بعض المساعدات لحد الآن. واللافت للنظر أن عدد الأرقام المتضررين يزداد يوما بعد يوم، ووصلت إلى سبعة ملايين وسبعمائة ألف حسب التقارير الصحفية لمكتب المبعوث الخاص.
النتائج :
المجاعة: ومن الآثار الناتجة عن الجفاف انتشار المجاعة، وتعطل الحياة وتوقف الأنشطة الاقتصادية، خاصة في المحافظات التي تشتد فيها آثار الجفاف، ونزوح عدد كبير من الناس من أماكن إقامتهم إلى المدن الكبيرة بحثا عن اللجوء والإيواء، فيتغير في هذه العملية نمط حياتهم ومألوف عيشهم بسبب هذه الظروف القاسية.
النزوح الداخلي : يسبب الجفاف نزوحا داخليا حيث تضطر الأسر -التي تفقد مصادر قوتها سواء كانت زراعية أو حيوانية – الانتقال إلي المدن الكبيرة والتي تلقي فيها تحديات جديدة في وسائل كسب العيش والتأقلم مع متطلبات الحياة العصرية في المدن.
الهجرة الاضطرارية: يعتبر الجفاف سببا رئيسيا لهجرات الإنسان، والصراعات المميتة على الموارد المتضائلة، وعدم وجود غذاء أمني كاف في البلاد التي يحدث فيها الجفاف بشكل متتالي، بالإضافة إلى عدم الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي الذي يصيب السكان، حيث يستغل أولاد الأسر والعوائل- التي فقدت أملاكها المتمثلة غالبا بالمواشي والمحاصيل الزراعية المرتبطة بالأمطار الموسمية- كمصدر تجنيد للمنظمات الإجرامية والإرهابية.
التحول الديموغرافيي: ظاهرة الجفاف من الظواهر الرئيسية التي تساهم في التحولات الشديدة التي تحدث في البلاد المتأثرة بالقحط المتكرر، بحيث تختفي مدنا بِرُمَّتها من بعض المناطق نتيجة النزوح المتلاحق وآثاره السلبية على الاقتصاد القومي والإنتاج. وفوق هذا كله، يدمر الجفاف البيئات الطبيعية المهمة للبلاد، وكذلك التنوع البيئي الموجود في مثل هذه البيئات مما يجعلها بيئة طاردة و غير مساعدة للحياة ما يزيد من معاناة الإنسان فيها.
موجات متتالية من الجفاف :
يعتبر من بين كل خمس سنوات متتالية، معدل عامين سنوات قحط وجفاف حيث يؤدي التذبذب، وانخفاض هطول الأمطار إلى نفوق مئات الآلاف من المواشي، وفقدان مئات الآلاف من الأسر مصدر عيشهم ما يعرضهم لخطر المجاعة، ويحمّلهم مشقة النزوح من أماكن إقامتهم إلى مخيمات النازحين ونواحي المدن والمقاطعات. ومن أبرز مراحل الجفاف الذي ضرب الصومال علي مدى العقود الخمسة الماضية :
1)جفاف سنة 1974 المعروف محليا بـ(Abaarti Dabadheer) و الذي يعد واحدا من أسوأ الجفاف على مر التاريخ في الصومال الحديث حيث ضرب القحط منطقة شرق إفريقيا، خاصة الصومال و إثيوبيا اللتين كانتا بؤرة ارتكاز الجفاف.
ومن حسن حظ الصومال- بخلاف إثيوبيا التي حاولت إخفاء وجود الجفاف في بلادها- أنها أعلنت أن البلاد تواجه موجة جفاف لم يسبق لها مثيل من قبل، وأن أكثر من مليون إنسان كانوا يواجهون خطر المجاعة إن لم يحصلوا على إغاثة عاجلة، كما أن هذا الجفاف صادف زمنا كانت تحدث في البلاد قضايا هامة من ضمنها “حملة تعليم اللغة الصومالية، وتوعية المواطنين في الأرياف والقرى”، وبهذا الصدد كان أول من أماط اللثام عن وجود حالة إنسانية متفاقمة ناجمة عن الجفاف خاصة في شمال البلاد، الطلبة الذين كانوا ضمن مشروع التوعية والتعليم. وقد استضافت الصومال آنذاك منظمة الاتحاد الأفريقي التي انعقد مؤتمرها السنوي بمقديشو، وعلى إثره أصبحت الصومال في رئاسة الدورة على مدى سنة، ما أعطى الصومال زخما إعلاميا واستجابة عاجلة لنداء الإغاثة حين خاطب الرئيس الصومالي اللواء: محمد سياد بري العالم من على منصة الأمم المتحدة، وطلب منهم إيصال مساعدات لمتضرري الجفاف في الصومال، إلى جانب جهود الحكومة العسكرية- بالتعاون مع حليفها العسكري يومئذ الاتحاد السوفيتي- والذي يعود إليه الفضل الأكبر في منع تحول المجاعة إلى كارثة حقيقية.
2)جفاف 1992: هذا الجفاف ضرب البلاد إثر انهيار الحكومة المركزية وأثّر حياة مليوني إنسان مات منهم ما يقارب من ثلاثمائة ألف شخص بسبب المجاعة الناتجة غن هذا الجفاف، وقد فاقم الوضع الحرب الأهلية التي كانت تدور رحاها في أجزاء متفرقة من البلاد ما أجبر الأمم على تفعيل البند السابع، وبموجبه تم إرسال القوات الأممية بقيادة الولايات المتحدة ت المعروفة ب (UNITAF)، والتي تحولت لاحقا إلى (UNOSOM) تحت شعار “عملية إعادة الأمل”. فبالرغم من أن التدخل الأممي نجح في إيصال المساعدات إلى المحتاجين، وتفادي جزء من آثار الكارثة، والحد من الحرب التي كانت مستعرة في البلاد، إلا أنه فشل في نزع السلاح من الحركات المسلحة التي كانت سببا في استفحال الوضع.
3)جفاف 2011: تعد هذه المرحلة واحدة من أشد مراحل الجفاف التي مر على البلاد منذ أربعين سنة حيث تقدّر الإحصاءات على موت أكثر من ثلاثمائة شخص، ونزوح ما يقرب من خمسة ملايين إنسان من قراهم نتيجة انتشار المجاعة في كثير من هذه المناطق والمحافظات، خاصة المناطق الجنوبية من الصومال. وما ساعد تفاقم وتدهور الوضع آنذاك إلى مستويات كارثية الحروب المشتعلة بين القوات الحكومية وحركة الشباب التي كانت تسيطر على أجزاء واسعة من وسط وجنوب البلاد، بجانب تعذر وصول الإغاثة والمساعدات للمحتاجين بسبب الإتاوات المفروضة على الهيئات الإنسانية من قبل الحركة.
4) جفاف سنة 2017: يعتبر البعض هذه السنة سنة جفاف أخرى كادت أن تؤدي بحياة كثيرين من الناس، لولا الإنذارات المبكرة التي أطلقتها جهات متعددة محلية ودولية، والتي أفضت في نهاية المطاف إلى درء مخاطرها، كما حالت الجهود المبذولة في احتوائها أن تتحوّل إلى كارثة إنسانية.
5)جفاف 2022: دقّت كل من الحكومة الصومالية والمنظمات الإنسانية ناقوس الخطر لمجاعة قد تعم كل مناطق البلاد، بعد ما تأخرت وتذبذبت الأمطار الموسمية في أربعة مواسم متتالية ما أدي إلى نفوق مئات الآلاف من المواشي وتلف في المحاصيل الزراعية، الأمر الذي أدى إلى نزوح مئات الآلاف من الأسر من أماكنهم، ويعيشون الآن في ظروف إنسانية قاسية إن لم يتم تداركها ربما تفتك بالآلاف من المواطنين.
ختاما:
يبدو أن الجفاف بات يتكرر في الصومال، وكلما تجاوزت البلاد من محنة جفاف ومضاعفاته إلا ولها موعد آخر مع جفاف جديد عادة ما يكون أشد وطأة وأكثر تأثيرا من المراحل السابقة، الأمر الذي يدخل البلاد في دوامة أزمات إنسانية من شأنها أن تشل قدرات الدولة المحدودة أصلا، وتبدد الموارد المخصصة لمجالات التنمية، وتصرف الجهات الحكومية من أولوياتها المهمة كمحاربة الحركات الراديكالية المتمثلة بالعائق الأكبر أمام عجلة التنمية وتقدم البلاد. وفوق هذا كله يدمر الجفاف الاقتصاد الوطني بتدميره الثروة الحيوانية والزراعية التي تمثل عصب الحياة لآلاف الأسر، والتي تضطر بسبب الجفاف النزوح إلى المدن لإنقاذ حياتهم من براثن المجاعات والويلات، وهذا بدوره يشكل ضغطا اقتصاديا واجتماعيا على هذه المدن. لذلك يلزم على الإدارة الجديدة أن تطور خطة إستراتيجية شاملة لدراسة ومتابعة الآثار الناجمة عن ظاهرة الاحتباس الحراري الذي يعزى إليها أسباب الجفاف المتكرر في البلاد، كما يلزم عليها إنشاء مراكز الإنذار المبكر في بعض المناطق ليتسنى لها الاستجابة السريعة في حال حدوث الجفاف.