من الواضح أن القول بنهاية التاريخ وانتصار قيم الليبرالية الغربية كان بمنزلة ادعاء خاطئ، حيث بدأ النظام الدولي يعود مرة أخرى إلى صراع محموم يشبه حالة الحرب الباردة. وتُعبر كل من الحرب الأوكرانية والحرب الأهلية الإثيوبية عن طبيعة الصراع المعاصر بين القوى العظمى التي انتهى بها المطاف إلى حد الصدام العسكري. لقد تم تحدي النظام أحادي القطبية الذي قادته الولايات المتحدة على مدى ثلاثة عقود من قبل القوى الصاعدة الجديدة – الصين على المستوى العالمي وروسيا في أوروبا الشرقية. وتشكل عودة النظام الدولي ثنائي القطبية أو متعدد الأقطاب الذي ينطوي على توترات شبيهة بفترة الحرب الباردة، مثل حالات الحروب بالوكالة في مناطق مختلفة من العالم، بما في ذلك القرن الإفريقي، مصدر انشغالات أمنية عالمية بالغة.
وفي هذا السياق أصبحت منطقة القرن الإفريقي ذات أهمية متزايدة بالنسبة لإستراتيجيات القوى العظمى والصاعدة في النظام الدولي وعلى رأسها بطبيعة الحال الصين. فبالنسبة لسياسة الصين العالمية كما هي الحال بالنسبة للولايات المتحدة والدول الأوروبية وروسيا يتطلب موقع القرن الإفريقي الحيوي منع وجود مراكز القوى والتحالفات المعادية التي يتم تشكيلها ضد الصين في المستقبل. أما بالنسبة للمصالح الاقتصادية المتعددة، فقد ظلت عاملاً محدداً للسياسة الخارجية الصينية وإن بقي الهدف الإستراتيجي الرئيسي متمثلاً في احتواء نفوذ القوى المهيمنة أو الراغبة في الهيمنة بما في ذلك روسيا. وعليه فإن هدف حماية مصالح الدولة الوطنية، كما هي الحال بالنسبة للقوى الغربية، يعد المحدد الرئيسي لسياسة الصين الخارجية في منطقة القرن الإفريقي.
ويثير تمركز الصين العسكري والأمني في منطقة القرن الإفريقي تساؤلات مهمة. ومن ذلك: هل الصين تحاول مواجهة هيمنة القوى الغربية، لاسيما الولايات المتحدة؟ وما دوافع وأشكال الصعود الصيني الجديد في منطقة القرن الإفريقي؟ ويحاول هذا المقال تقديم مساهمة في المناقشات المتعلقة بالوجود الصيني في القرن الإفريقي من منظور جيوستراتيجي.
جيبوتي محور ارتكاز
يبرز القرن الإفريقي بشكل خاص كنقطة ارتكاز رئيسية للتغلغل العسكري الصيني وتمدده في القارة. بصرف النظر عن مشاركتها في إثيوبيا والسودان وجنوب السودان، تقدم صورة الصين في جيبوتي مثالاً كلاسيكياً حيث يُنظر إلى وجودها العسكري على أنه وضع جيوسياسي واضح مع تداعيات مهمة محتملة على التحولات في منظومة الأمن الإقليمي وتوازن القوى العالمي في نهاية المطاف. ويرجع ذلك جزئياً إلى الأهمية الإستراتيجية للقرن الإفريقي وحقيقة أن جيبوتي هي إحدى الدول التي حافظت فيها القوى الغربية، لاسيما فرنسا والولايات المتحدة، تاريخياً على وجود عسكري ملموس وإستراتيجي.
وبالفعل تقوم الصين بدور مهم كقوة عظمى بارزة في المنطقة حيث تهدف السياسة الصينية إلى إقناع الدول الإفريقية أن مشاريع البنية التحتية والمساعدة الفنية الخاصة بها تمثل علاقات “مربحة للطرفين”. وإذا كانت المنطقة بأكملها لها قيمة إستراتيجية لا يمكن إنكارها فإن جيبوتي تعد مكوناً جيو-سياسياً مهماً بشكل خاص لهذه المنطقة، وتتفهم الصين مصلحتها الإستراتيجية في الحفاظ على موطئ قدم قوي لها هناك. وعلى الرغم من أنها ثالث أصغر دولة في أفريقيا، فإن جيبوتي تستضيف مواقع عسكرية لجيوش دولية متعددة بما في ذلك الصين مما جعل اقتصاد جيبوتي يعتمد بشكل كبير على الدخل المرتبط بتأجير هذه القواعد العسكرية. وعليه فقد أصبح القرن الإفريقي منطقة مزدحمة بالوجود العسكري الأجنبي مع إمكانية أن تصبح نقطة صراع وتنافس من أجل اكتساب النفوذ والهيمنة في إفريقيا. علاوة على ذلك فقد أقامت الشركات الصينية منطقة جيبوتي للتجارة الحرة الدولية، وهي أكبر منطقة تجارة حرة في إفريقيا. كما تدين جيبوتي بمعظم ديونها العامة للصين، مما يمنح الصين مصلحة كبيرة خاصة هناك.
دوافع متداخلة
يبدو أن دوافع “أمننة” الوجود الصيني في القرن الإفريقي ذات شقين، اقتصادية وسياسية، وإن كان ثمة تداخل بينهما. بالنسبة للصين، يعد الوصول إلى الموارد الطبيعية الغنية – النفط والغاز والمعادن الطبيعية النادرة – أولوية إستراتيجية تنعكس في قروض مبادرة الحزام والطريق التي تبلغ قيمتها تريليون دولار لإفريقيا. في النهاية، تسعى الصين إلى تغيير علاقات القوة العالمية وتقويض الهيمنة الأمريكية العالمية. ولعل ذلك الأمر يجعل القرن الإفريقي أحد أهم المناطق في إفريقيا فيما يتعلق بالمناورات العسكرية الصينية تجاه قضايا الجغرافيا السياسية الإقليمية والقطبية العالمية. ويمكن تحديد أبرز محددات أهمية الوجود الأمني الصيني في منطقة القرن الإفريقي على النحو التالي:
(1)- الأهمية الاستراتيجية لخطوط التجارة: يقع القرن الإفريقي على طول طريق تجاري بحري مهم يربط بين أوروبا وآسيا عن طريق قناة السويس. ولا يخفى أن هذه الجغرافيا الاقتصادية تؤثر بشكل كبير على مصالح الصين. إذ يمكن موقع الصومال من الوصول إلى مضيق باب المندب الذي يكتسب أهمية تجارية بالغة نظراً لمرور نحو 12% من حجم التجارة العالمية من خلاله. كما يتدفق عبره أكثر من 4.8 مليون برميل من النفط الخام والمنتجات البترولية المكررة كل يوم، إلى جانب العديد من الإمدادات الحيوية الأخرى. علاوة على ذلك يتم الوصول من خلاله إلى الأسواق الناشئة مع انخفاض تكاليف العمالة.
(2)- الهشاشة الإستراتيجية لدول المنطقة: بعد أن شهدت صراعات كبرى بما في ذلك انهيار الحكومة المركزية في الصومال وأزمة القرصنة قبالة سواحل خليج عدن، وكذلك الصراع المسلح في دارفور والحرب الأهلية في جنوب السودان، وأزمات سياسية مع بؤر توتر عرقي في إثيوبيا؛ علاوة على سنوات طويلة من التمرد المسلح في شمال أوغندا، وقضايا الإرهاب، والعنف السياسي في المنطقة. وقد شكل ذلك معضلة حقيقية أمام صانع القرار السياسي الصيني نتيجة الصدام بين مبدأ “عدم التدخل” في السياسة الصينية ومتطلبات حماية مصالحها الاقتصادية والإستراتيجية في المنطقة.
(3)- التسابق الأمني على البحر الأحمر: والتي يجسدها التكالب العسكري على جيبوتي، التي تعد ذات سمعة عالمية في استضافة القواعد العسكرية الأجنبية. ويؤكد كثير من الكتاب أن تجاور القاعدتين الأمريكية والصينية في جيبوتي يمثل صورة مصغرة للمنافسة بين القوتين العظيمتين باعتبارها ثنائية قطبية جديدة. ومن المرجح أن تفرض هذه القطبية الثنائية بين الولايات المتحدة والصين في جيبوتي وخارجها قيوداً على التعاون وتغذي المنافسة الإستراتيجية بين بكين وواشنطن. ولعل ذلك يعيد إلى الأذهان ما تصوره مورغنثاو على أنه سياسة المكانة والهيبة من قبل الولايات المتحدة في المنافسة الأمنية مع الكتلة السوفييتية في عالم الحرب الباردة. وعليه فقد تحولت المنطقة إلى ساحة للتنافس العالمي، أو على حد تعبير أليكس دي وال، “مكان السوق السياسي” الذي يمكن أن تصبح فيه الصين بشكل واضح “التاجر ” الأبرز. يعني ذلك أن الصين تسعى للاستفادة من موقعها كقوة عالمية صاعدة من أجل الحصول على مجالات نفوذ جديدة بما في ذلك المجالات الأمنية والعسكرية.
(4)- ارتباط القرن الإفريقي بمنطقة الخليج العربي: اتضح ذلك بجلاء في حالة أزمة الخليج في يونيو 2017 عندما سحبت قطر ما يقرب من 200 جندي متمركزين في منطقة دميرة المتنازع عليها بين إريتريا وجيبوتي. في أعقاب هذا المأزق، عرضت الصين إرسال قوات بديلة إلى المنطقة الحدودية المتنازع عليها.
مجالات “الأمننة”
تتجه الصين بشكل تدريجي إلى المنظمات الإقليمية الإفريقية للتعاون في القضايا الأمنية. على سبيل المثال، في خطة العمل بين الصين وإفريقيا، تأمل بكين في دعم إفريقيا في مجالات اللوجستيات لمواصلة مشاركتها النشطة في عمليات حفظ السلام وعملية إزالة الألغام وتقديم المساعدة المالية والمادية. بالإضافة إلى التدريب ذي الصلة بعمليات مجلس السلام والأمن التابع للاتحاد الإفريقي. إن المشاركة الصينية في عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في إفريقيا، خاصة في القرن الإفريقي، هي تحرك واضح بعيداً عن الحذر التاريخي وأحياناً العداء الصريح تجاه مؤسسة بعثات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. ومن الواضح أن حماس الصين بشأن عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، خاصة في إفريقيا، يتماشى مع إستراتيجيتها الأخيرة في السياسة الخارجية لدعم الحلول متعددة الأطراف بدلاً من الإجراءات أحادية الجانب لمواجهة التهديدات الإستراتيجية.
افتتحت الصين في عام 2017 رسمياً أولى قاعدة لوجستية وعسكرية خارجية، وهي منشأة لإعادة الإمداد البحري في جيبوتي، مما يساعد الصين -طبقاً للرؤية الرسمية- على الوفاء بالتزاماتها الدولية لمكافحة القرصنة في المياه الصومالية وكذلك حماية السلام والأمن في المنطقة بشكل أفضل. ومن الواضح أن الصين تحرص على التمركز العسكري الإقليمي الذي يمكّنها من الدفاع عن مصالحها الاقتصادية في إفريقيا وتأمين قنوات النقل البري والبحري، حتى في الوقت الذي تسعى فيه إلى منافسة الهيمنة العسكرية الأمريكية. على هذا النحو، سوف يكون وجود القاعدة العسكرية الصينية في جيبوتي بمنزلة استجابة مباشرة لموقف الولايات المتحدة في المنطقة والقارة ككل. بالإضافة إلى ذلك، سيتم تحديد هذا الوجود والنظر إليه من خلال المصالح الاقتصادية المتزايدة للصين في المنطقة، خاصة السودان وإثيوبيا وكينيا، فضلاً عن الأوضاع الأمنية في السودان وجنوب السودان والصومال. أخيراً من المفترض أنه كلما ركزت الولايات المتحدة على قضايا مكافحة الإرهاب، فإن التعاون العسكري الصيني مع جيبوتي ودول أخرى في القرن الإفريقي سيأخذ البعد الاقتصادي المألوف، حيث سيسعى إلى استخدام “الدعم المالي” لجذب الدول الإقليمية إلى جانب الصين، وبالتالي إحداث اختراقات مهمة في مجالات النفوذ العالمية. في هذا الصدد، ستستمر جيبوتي في كونها جبهة مواجهة مهمة وربما محتملة بين الولايات المتحدة والصين على التراب الإفريقية، مع تبعات أمنية إقليمية وعالمية مهمة.
تحولات صينية
من الملفت للانتباه أن الصين قد تخلت عن نهج “سياسة عدم التدخل” الذي كان من ثوابت إستراتيجيتها الإفريقية وذلك لصالح تبني “سياسة السلام والتنمية” وتنفيذ ذلك بشكل مغاير لرؤية كل من الولايات المتحدة وحلفائها الخاصة بمنطقة القرن الإفريقي. تجلى ذلك في قيامها بتغيير اسم قاعدتها العسكرية في جيبوتي من “الدعم اللوجستي العسكري” إلى “القاعدة الوقائية”. من الواضح أن الجانب الوقائي هنا يعني حماية الاستثمارات الصينية في المنطقة من أي أزمات إقليمية، مثل حرب التيجراي، أو التهديد الخارجي الذي ربما يأتي من الغرب. لذلك، فإن تدخل الصين في المنطقة ليس فقط مظهرًا من مظاهر التنافس السياسي، ولكنه أيضًا تدافع اقتصادي تتقدمه قواتها العسكرية المرابطة في جيبوتي. بعبارة أخرى، تهدف قاعدة بكين العسكرية في جيبوتي إلى الدفاع عن استثماراتها التي تبلغ مليارات الدولارات في المنطقة، لا سيما في إثيوبيا.
ويمكن تحديد أبرز شكلين لنهج التدخل الإقليمي الجديد في قضايا الأمن والتنمية الخاصة بمنطقة القرن الإفريقي على النحو التالي:
1- التحركات الدبلوماسية: في أعقاب قيام الولايات المتحدة بتعيين مبعوثها الخاص، جيفري فيلتمان إلى القرن الإفريقي، اتخذت الصين أيضاً إجراءً مماثلاً، حيث أعلنت في يناير 2022 تعيين شيويه بينج مبعوثاً خاصاً لها إلى المنطقة لأول مرة. ويهدف المبعوث الخاص إلى إقامة علاقة عمل مع الأطراف المعنية والحفاظ على الاتصال والتنسيق الوثيقين بشأن دفع تنفيذ آفاق السلام والتنمية في القرن الإفريقي. يوضح هذا الإجراء الصيني الأول من نوعه في إفريقيا رغبة بكين في احتواء النفوذ الأمريكي في كل مناطق العالم بما في ذلك القرن الإفريقي. من الواضح أن رؤية الصين الجديدة لقضايا السلام والتنمية في منطقة القرن الإفريقي تتضمن محددات إستراتيجية سياسية واقتصادية وعسكرية واسعة النطاق تشكل في مجملها تحديا كبيراً لمصالح الولايات المتحدة في المنطقة.
ولعل دلالة وأهمية هذه الخطوة الصينية تكمن في أنها تأتي وسط تصاعد حدة الأزمات المتعددة التي تشهدها المنطقة، كما هي الحال في إثيوبيا، والصومال، وجنوب السودان، والسودان. ويمكن الإشارة إلى ثلاثة تأثيرات محتملة لهذه السياسة الصينية. ربما تسعى الصين إلى توظيف أي نجاحات دبلوماسية ناتجة عن وساطة وجهود مبعوثها من أجل استخدامها لتوسيع وتمدد نفوذها في المنطقة وما وراءها. من جهة ثانية يمكن أن ترحب المنطقة بشكل خاص بالمشاركة الصينية، لاسيما تلك التي تتخذ شكل الدعم الإنساني أو الاقتصادي المتزايد. على أنه من جهة ثالثة قد تستخدم قوى المعارضة الوطنية خطاباً مناهضاً للصين بهدف حشد الدعم الشعبي، لاسيما في حالة احتدام الجدل العام حول طبيعة ودور الصين في المنطقة.
2- التعاون الجماعي: والذي يجسد مؤخراً في انعقاد المؤتمر الأول بين الصين والقرن الإفريقي للسلام والحكم الرشيد والتنمية في أديس أبابا خلال الفترة من 20 إلى 21 يونيو 2022. وفقاً لوزارة الشؤون الخارجية الإثيوبية، فإن المشاركين في المؤتمر “اتفقوا على الحل السلمي للمشاكل الإقليمية، والتصدي المشترك للكوارث الطبيعية، ودعم نهج منسق لمكافحة الأمن السيبراني، والإرهاب، والأسلحة غير المشروعة، والاتجار بالبشر، من بين أمور أخرى.” وقد دعت الصين إلى عقد المؤتمر من خلال مكتب المبعوث الخاص للقرن الإفريقي- شيويه بينغ – وحضره مسؤولون حكوميون رفيعو المستوى من إثيوبيا، وجيبوتي، وكينيا، والصومال، وجنوب السودان، والسودان، وأوغندا. ومن الجدير بالذكر أن إريتريا، التي انضمت إلى القوات الإثيوبية في حرب التيجراي، كانت غائبة بشكل ملحوظ، على الرغم من أنها كانت من بين الدول الإفريقية التي زارها وزير الخارجية الصيني في أوائل عام 2022.
أشار المبعوث الصيني في خطابه إلى “قضايا العرق والدين والحدود المعقدة والمتشابكة” في المنطقة باعتبارها الأسباب الكامنة وراء الصراعات. وعلى الرغم من توكيده على صعوبة التعامل معها، حيث يعود العديد منها إلى الحقبة الاستعمارية، فإنه استخدم الرواية الصينية، تماماً مثل روسيا، بحسبان أن الصين ليس لها تاريخ استعماري في إفريقيا على عكس العديد من الدول الأوروبية. بيد أن الدلالة المهمة لعقد هذا المؤتمر الأول الخاص بالقرن الإفريقي في أثيوبيا تشير إلى أهميتها البالغة بالنسبة للإستراتيجية الصينية في المنطقة. إذ تعد إثيوبيا نقطة ارتكاز مهمة لمبادرة الحزام والطريق الصينية، حيث يوجد حالياً حوالي 400 مشروع بناء وتصنيع صيني في إثيوبيا، تقدر قيمتها بأكثر من 4 مليارات دولار. لم يكن مستغرباً أن يتم تمويل وبناء معظم مشروعات البنية التحتية الجوية والطرق والسكك الحديدية في إثيوبيا من قبل الصينيين. أدت المشاركة الاقتصادية الصينية القوية إلى أن تصبح بكين الشريك التجاري الأول لإثيوبيا. قبل جائحة كورونا، كان الاقتصاد الإثيوبي ينمو بشكل مثير للإعجاب بنسبة 10 % لأكثر من عقد من الزمان، مما يؤكد مكانة الصين العالية كشريك في التنمية. ومع ذلك، توجد مخاوف بشأن فخ الديون الصينية المستحقة على إثيوبيا والتي تقدر بنحو 13.7 مليار دولار، مما يجعل إثيوبيا في المرتبة الثانية بعد أنجولا من حيث الديون الصينية في إفريقيا.
تحتفظ إثيوبيا بعلاقات سياسية وأمنية قوية مع الصين. كانت إثيوبيا أول دولة إفريقية تستضيف اجتماع منتدى التعاون الصيني الإفريقي، الذي عُقد في عام 2003. وفي عام 2012 ، مولت الصين وشيدت مقر الاتحاد الإفريقي بقيمة 200 مليون دولار في أديس أبابا. كما اعتمدت الصين وإثيوبيا على اتفاقية دفاعية أبرمت عام 2005 بشأن التدريب المشترك وتبادل التكنولوجيا وعمليات حفظ السلام. وعليه فقد تم تدريب ضباط إثيوبيين في الصين، كما اشترى الجيش الإثيوبي مؤخراً مدفعية صينية وعربات نقل. علاوة على ذلك، يُعتقد أن القوات الحكومية تستخدم طائرات من دون طيار قدمتها الصين لاستخدامها في حرب التيغراي.
وختاماً، فقد كانت الصين تؤكد دوماً نهجها طويل الأمد “بعدم التدخل”، حيث قاومت التدخل الغربي بقيادة الولايات المتحدة في إثيوبيا استناداً إلى مبدأ “الحلول الإفريقية للمشكلات الإفريقية”. ومع ذلك فإن تفشي غياب الأمن، مع وجود ما يقدر بنحو 30 ألف مواطن صيني في إثيوبيا قد خلق معضلة حقيقية أمام الصين في القرن الإفريقي. علاوة على ذلك فإن توقف الاستثمارات الصينية الرئيسية في إثيوبيا مؤقتاً، بسبب الصراع في التيجراي دفع إلى تحول مهم في الإستراتيجية الصينية باتجاه التدخل في سياق سياسي وعرقي معقد في المنطقة. ومع ذلك، يظل مبدأ عدم التدخل أمراً حاسماً للمصالح الأساسية الصينية – خاصة من أجل بقاء النظام وسلامة أراضيه الإقليمية. ولعل ذلك كله يعزز من فرضية إستراتيجية الاحتواء التي تتبناها الصين من أجل تقويض مصالح الولايات المتحدة الأمريكية والنيل من مكانتها العالمية. وبغض النظر عن الروايات الصينية والغربية فإننا أمام حالة تدافع دولي جديد على منطقة القرن الإفريقي والقارة الإفريقية ككل.
وفي هذ السياق يتضح وجود تغير وتبدل مهم في أدوار القوى الدولية في القرن الإفريقي. بينما يتراجع النفوذ الأمريكي الذي ينشغل بالمواجهة مع روسيا في أوكرانيا، تقوم الصين بتمديد نفوذها وممارسة دور أمني في المنطقة. طبقا للمبعوث الصيني الخاص إلى القرن الإفريقي، فإن بكين تريد أن تقوم بدور أكبر، “ليس فقط في التجارة والاستثمارات ولكن أيضاً في مجال السلام والتنمية والأمن.. لم يعد بإمكان الصين تقييد قواتها في قاعدتها في جيبوتي، ولكن يمكنها بدلاً من ذلك المشاركة في حفظ السلام”. يعكس ذلك تحولا واضحا في الإستراتيجية الصينية التي كانت تركز على استغلال الفرص التجارية في إثيوبيا وجيبوتي وغيرهما من دول المنطقة. ومن المرجح أن تنتقل الصين قريبًا إلى مرحلة جديدة تستخدم فيها جيشها تحت ستار العمليات الأمنية أو الشراكات من أجل التأثير على الحكومات وفقًا لمصالحها على طول سواحل البحر الأحمر والمحيط الهندي من السودان إلى كينيا.
المصدر: مركز المستقبل للأبحاث والدراسات الإستراتيجية