
لا تَكسل قوانين الطبيعة يومَا من تذكيرنا بأن الطيور تغدوا إلي أعشاشها، وأن المياه تعود إلى مجاريها، وأن الإنسان يأوي لكهفه، وأن من الطبيعي يعود الصومال إلى داره وموطنه، بل مسقط رأسه، إلي سافانا شرق إفريقيا مكانه الطبيعي في قريتنا الكونية التي تأبي إلا أن تصغر، وتلتصق جدرانها لتصبح في نهاية المطاف بيت اُسرة كونية واحدة بفضل الساينس Science هذا العلم الذي يغير ولا يتغير ولا يحيد عن العقل قيد اُنملة.
وتلبية الرئيس حسن شيخ محمود الاشتراك في مؤتمر مجموعة شرق إفريقيا East African Community(EAC) باهتمام بالغ، والطلب الذي قدمه باسم الشعب الصومالي لإعادة تجهيز مسرح شرق إفريقيا كي يلعب الصومال دوره الطبيعي في صناعة تاريخ شرق إفريقيا الجديد، هي بشارة تدل على إدراك العقل الجمعي الصومالي أن عودتنا إلى جذورنا في تربة شرق إفريقيا تعني في الواقع نفض غبار الاغتراب التعيس من عقولنا بهدف تأسيس النهوض الحضاري الصومالي من جديد، تمامًا كما عادت أوروبا إلي جذورها ونفضت عن وعيها غبار اغترابها في العصور الوسطي قبل أن تفجر للكون أنوار الثورة العلمية و عصر الحداثة.
ونحن كما قررت الطبيعة، أفارقة شرقيون بالدرجة الأولي، كوشيون Cushitic بالدرجة الثانية، وسادة القرن الإفريقي في ماضي تاريخه وحاضره ومستقبله.
لماذا؟ لأننا لم نأتي إلى هنا من بعيد، بل من ضفاف بحيرة تُركانا Turkana، مهد الإنسان، وموطن السابيانسSapiens في شمال شرق كينيا، حيث مازال أبناء عمومتنا الـ رينديلى Rendile والبورن Booran وغيرهم الكثير من الكوشيين يرعون فيها قطعانهم بسلام. (انظر الخريطة رقم 1)
لم نفعل نحن -ككوشيين- أكثر من الزحف من سهول تُركانا نحو مرتفعات هضبة الحبشة، ثم نزولاً إلى سهول المحيط الهندي، وخليج عدن، وساحل البحر الأحمر. (انظر الخريطة رقم 2 )
هكذا تقول أساطير أجدادنا المفسرة لوجودنا هنا، وتؤكدها الأنثروبولوجيا ودراسات الـ دي إن أي DAN، مما ينفي ويضرب بعرض الحائط خرافة أن أجدادنا وصلوا هنا في يوم معلوم عبر قوارب قادمة من وراء البحر، كما يروج لها أصحاب الفكر الميتافيزيقي السلفي دون دليل مادي.
فنحن، كما أثنت الساينس، اُصلاء هنا، في شرق وقرن إفريقيا، ولسنا غرباء قدموا من وراء البحر.
وانضمام بلادنا إلي مجموعة شرق إفريقيا في ظل هذا الظرف العسير في تاريخ الصومال المعاصر، يعني أمور عدة من بينها أحياء المكون الرئيسي في الشخصية الصومالية Somali ID وإعادة شمل الاُسرة، وعودة الابن الغائب إلى العُش، ليغرد السرب من جديد أناشيد إعادة بناء حضارة شرق أفريقيا على نفس قيم أجدادنا الأولين في عمق العصور الوسطى وبوسائلهم التجارية والتبادل الثقافي.
تلك الأيام الزاهرة، أي من القرن التاسع وحتى القرن الثالث عشر عندما كانت دول صومالية تجارية مثل سلطنة تُنّي، Tunni Sultante المؤسسة لـ “مدينة الدولة City State ” في براوا .Barawa (1)
وسلطنة مقديشو التي ازدهرت في نفس الفترة على بعد 200 كيلومتر شمال براوا(2) تبني مع أرخبيل لامو Lamu وسلطنات مدن مثل ممباسا، ماليدني وويتو قواعد الحضارة السواحلية ومنتجاتها إلى درجة أصحبت فيها اللغة السواحلية وليس الصومالية هي لغة الاُم ولغة التعامل اليومي في محيط مدينة براوا حتى كتابة هذه الأسطر.
ليس هذا فحسب، بل وصل الأمر إلى درجة جادل فيها المؤرخون المهتمون بشأن حضارة ساحل شرق إفريقيا في العصور الوسطي بأن ربط اسم عاصمة الصومال أي مدينة مقديشو بكلمات مشتقة من لغات آسيوية مثل العربية والفارسية هو نوع من الاستلاب الثقافي، وأن لفظة “مقديشو” لا علاقة لها بـ “مقعد” ولا بـ “شاه” بل مشتقة بكل بساطة من المصطلح السواحلي: مويجي وا مويشو «Mwiji wa Mwisho» الذي يعني المدينة الأخيرة. (انظر الخريطة رقم 3)
بل أبعد من ذلك، يجادل المؤرخون بأن الحضارة السواحلية Swahili Civilazation في العصور الوسطي تمددت على مسافة 3000 كيلومتر من مقديشو شمالًا وحتى ميناء إنهامبني Inhambane في الموزمبيق جنوبًا،
وأضف إلي ذلك أن المنطقة الشمالية الممتدة بين ساحل بنادر (ميناء ورشيخ، ميناء مقديشو، ميناء مركا، ميناء براوا) وأرخبيل لامو هي منشأ هذه الحضارة التي زحفت عبر الزمن جنوبًا إلى ساحل تنزانيا وموزمبيق، وذلك قبل أن يصل البرتغاليون إلي ساحل شرق إفريقيا في نهاية القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر، إلى جوار أن اسم جزيرة “مدغشقر” مشتق من اسم عاصمة الصومال مقديشو نتيجة لخطأ البحار الفينيسي Venetian ماركو بولو Marco Polo الذي ظن أن هذه الجزيرة هي سلطنة مقديشو التي سمع عنها. (3)
وعودة إلى ما كنا عليه، جاء زمن ازدهار إمبراطورية أجوران Ajuuna التي لم يخلق مثلها في ساحل شرق إفريقيا في القرن الثالث عشر لتتخذ من مدينة مركا ومدن أخرى في جنوب الوطن الصومالي عواصم موسمية لها، وتضم تحت أجنحتها دول مثل سلطنة تُنّي وسلطنة مقديشو لتصبح بذلك أكبر إمبراطورية تجارية وعسكرية في ساحل شرق إفريقيا وتواصل تجذير دورنا في مواصلة بناء صرح حضارة السواحلي عبر منتوج تجاري وثقافي ثري ومشترك مع سلطنات ساحل شرق إفريقيا، وتتاجر مع الهند وجنوب شرق آسيا، بل وترسل أول سفير لدولة إفريقية إلى الصين في العصور الوسطي. (4) (انظر الخريطة3)
وبعد أربعة مائة عام من النشاط الحضاري المتواصل هرمت إمبراطورية أجوران في أواخر القرن السابع عشر وأنتج المجتمع الصومالي على أشلائها في نفس الفترة سلطنة جلدي Galadi بسلاطينها الخمسة العظام لتواصل التجارة والتحالفات العسكرية مع بعض سلطنات ساحل شرق إفريقيا لقرن ونصف القرن إلي يوم أن وقع السلطان عثمان أحمد آخر سلاطين دولة جلدي في مدينة أفجوي عاصمة بلاده في عام 1902 اتفاقية سلام مع الإدارة الإيطالية لجنوب الوطن الصومالي أدت في نهاية الأمر إلى اُفول نجم هذه السلطنة رسميًا في عام 1911 وإعلان سيادة المستعمر الإيطالي على كل تراب جنوب الوطن الصومالي. (5)
ولكن هل انقطع وصالنا التجاري والثقافي مع أهلنا وجيراننا في ساحل شرق إفريقيا بانهيار سلطنة جلدي وحلول المستعمر الإيطالي محلها؟
ليس كُليًا، بل أصبحنا نصدر إلى كينيا المشروبات الروحية والعطور المنتجة في مصنع جوهر للسكر، بدلا من الحبوب، بعد أن أصبحت مزارعنا تنتج الموز المصدر إلى أوربا على حساب المستعمر الإيطالي.
وفي أوائل سبعينات القرن المنصرم، كنت أشاهد شخصيًا طوابير لشاحنات قادمة من الإقليم الشرقي Bari ومتجه إلى ميناء براوا لتفريغ أطنان من السمك المجفف ليعاد تصديرها بالسفن الشراعية إلى دول شرق إفريقيا.
تلك هي باختصار شديد جذورنا التاريخية التي يستند عليها طلب جمهورية الصومال في الانضمام إلي مجموعة شرق إفريقيا.
إلا أن المؤسف هو أن الإنسان الصومالي المعاصر أصبح مفصولًا عن واقعه الجغرافي والتاريخي إلى درجة أن خطاب رئيس الجمهورية في مؤتمر مجموعة دول شرق إفريقيا لم يلمح إلى أن الصومال لعبت تاريخيًا دورًا محوريا في إرساء قواعد حضارة السواحلي في ساحل شرق إفريقيا.
لماذا؟ لسبب بسيط هو أننا من يوم الاستقلال في ستينات القرن الماضي وحتى اليوم لا ندرس تاريخ بلادنا لأجيالنا الناشئة، وعليه لم يكن رئيس الجمهورية على دراية بدور بلادنا في إرساء قواعد حضارة السواحلي في شرق إفريقيا.

خريطة رقم 1

خريطة رقم 2

خريطة رقم 3

خريطة رقم 4
المراجع/ الهوامش
1-
2-
3-
http://etimologias.dechile.net/?Madagascar
4-
5-