المدرسة الصرفية في الحلقات العلمية بالصومال
وميدان الصرف ودروبه لم يكن غائباً عن الحلقات العلمية في منطقة القرن الإفريقي، بل أنّ العلماء كانوا يمارسون هذا الفن في حلقاتهم العلمية ويواطبون على تعليمه وتدريسه، وكان أحياناً يضطرون إلى وضع رسائل لتبيينه وتبسيطه لطلبة العلم، علماً أنّ هذه الجهود العلمية كانت بمثابة الجامعة بحيث كان يفد إليها طلبة العلم ليس من المنطقة فحسب، وإنما من أماكن أخرى كما كان عادة رحلات طلبة العلم.
من ناحية أخرى أنّ الذين رحلوا إلى البلدان العربية – كاليمن والحجاز والشام ومصر وغير ذلك – من طلبة العلم بهدف التعليم كانوا على مستوى أقرانهم في تلك البلدان من حيث اللغة والمعرفة، بحيث لم نرى من سجل عوائق اعترضت لهؤلاء من طلبة العلم من منطقة القرن الإفريقي، في حين نجد في مصادر التراجم المختلفة بأنّ من وفد إلى تلك البلدان انضموا إلى المجالس العلمية فور وصولهم بدون مقدمات أو تقوية اللغة – كما يحصل وقتنا الحاضر في مراكز ومعاهد تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها التابعة بالجامعات – بل أنّ بعضهم جلسوا على كرسي علمي والتف حولهم طلبة العلم، كما هو حال كل من:
- فخر الدين الزيلعي، عثمان بن علي بن محجن البارعي، الذي وفد إلي مصر سنة 1305م. صاحب كتاب” تبيين الحقائق لشرح كننز الدقائق” ، وهو شرح على كنز الدقائق للإمام عبد الله بن أحمد بن محمود أبو البركات حافظ الدين، وهذا الكتاب مكون من ستة مجلدات. ومن مؤلفاته أيضاً: تركة الكلام على أحاديث الأحكام ، شرح الجامع الكبير.
- العلامة الشيخ المحدث الشيخ جمال الدين عبد الله بن يوسف بن محمد صاحب كتاب نصب الراية في ذكر أحاديث الهداية.
والحقيقة أنّ هذا الأمر إن دلّ على شئ فإنّما يدل على أنّ المجالس العلمية المخلتفة في منطقتنا كانت على مستوى عال، ومن هنا لم يأت من فراغ إلى أن شدّ الرحال إليها بعض طلبة العلم الوافدين من مناطق مختلفة وليس هدفهم إلا طلب العلم.
ولكي نضرب مثلاً مما سبق يكفي أن نشير إلى ما كان يقوم العلامة الشيخ محمد علوي بن أحمد الأستاد الأعظم الفقيه المقدم من جولات عند طلبه العلم في آفاق كثيرة ، وذلك حين قدم إلى الصومال قادماً من اليمن لا سيما من بلدته تريم في القرن الثامن الهجري ، ولاشك أنه قد سمع ما آلت إليه منطقة القرن الإفريقي عموماً، وبلاد الصومال خصوصاً من الحالة العلمية قبل مجيئه إليها ،لذلك شدّ الرحال إلى الصومال ولاسيما مدينة مقديشو التي كانت مليئة بالعلماء الأجلاء الأفاضل ، وقد تتلمذ على أيدي هؤلاء وأخذ عنهم عدة علوم مختلفة من خلال حلقاتهم العلمية، غير أنه كان يحرص على بعضهم مثل حلقة الشيخ جمال الدين محمد بن عبد الصمد الجهوي ، وحاز منه علوماً كثيرةً وبرع وجمع فيها ما جمع حتى فاق أهل زمانه وتقدم بها على أقرانه ثم رجع إلى بلده تريم في اليمن.1
ولا غرابة في ذلك بحيث كان يلزم على طلاب العلم الوافدين من خارج الصومال أن يلتحقوا بالحلقات العلمية التي كانات منتشرة في جميع أنحاء الصومال، وبالذات تلك التي يمارس شيوخها بلغة القرآن فقط حتى يتمكنوا من فهم اللغة المحلية الدارجة في المنطقة بلهجاتها المختلفة التي كان بعض العلماء يشرحون دروسهم ، حسب موقع إقامة الطالب في البلاد، وذلك إذا كان الطالب الوافد من المنطقة العربية ولا يجيد غير العربية لغة.
ونستطيع القول بأنّ ما سبق من التبادل الثقافي والعلاقات العلمية لدليل واضح على مدى عمق العلاقة والاتصال بين الصومال والبلدان الإسلامية الأخرى وبالذات المناطق المجاورة، مثل اليمن والحجاز ومصر، وكذا الرحلات العلمية التي كان يخوض فيها طلبة العلم الصوماليين إلى المركز العلمية في العالم ثمّ رجوعهم إلى أرض الوطن بعد تحصيلهم العلمي وتفقههم في الدّين بالإضافة إلى تدفق العلماء والمثقفين إلى القطر الصومالي، كل ذلك قد أثر على الحياة العلمية والثقافية في المنطقة حتى صارت دوحة للعلم والمعرفة وقبلة تقصد إليها طلبة العلم في أنحاء مختلفة من إفريقيا وآسيا.
وما ذكرناه سابقاً لدليل واضح على دور اللغة العربية – بما فيها علم الصرف – في عملية التدريس والحركة العلمية عموماً ، وأنّ أساتذه في هذه الحلقات كانوا بارعين في علم الصرف، بحيث لم تخل في الساحة العلمية فترة من الفترات مثل هذه النجوم ، وعلى سبيل مثال نضرب بشيخين جليلين برزا في علم الصرف وضروبه ، بل وتركوا لمسات علمية ليس في حلقاتهم العلمية التي كانوا يعقدونها فحسب، وإنّما حتى في مجال التأليف والابداع، وهما:
أولاً: الشيخ عبد الرحمن الزيلعي
هو الشيخ عبد الرحمن بن أحمد نورية الديسو الكدلي نسبة إلى قبيلة ديسو الرحنوينية، وكان ماهراً في علم الصرف، بل وضع بعض الرسائل للصرف لتستفيد منها طلبته، واستهل ابداعاته العلمية بتأليف كتابه:
- حديقة التصريف في علم الصرف
وهذه رسالة وضعها الشيخ عبد الرحمن الزيلعي وهي عبارة عن أرجوزة منظمة بالقوافي في أبواب علم الصرف وأبنيته، وجاءت جملة كافية لمقاصد هذا الفن، واستخدم بعض الألفاظ والأساليب القديمة. والرسالة صغيرة الحجم ومتناولة على أيدي طلبة العلم لاسيما القاصدين والراغبين في تعمق علم الصرف وضروبه. والقارئ لكتاب الزيلعي المشار إليه يلاحظ بأنّ المؤلف أراد أن يكون مقرراً لطلبة العلم المبتدئين، وهو متداول أغلب أهل العلم الدارسين والقائمين على حلقات العلم في المساجد وأروقة العلم في المدن والأرياف معا، مما يدل على أهمية الكتاب ومؤلفه، وهي أي الأرجوزة سهلة في حفظها وقرائتها ، لكنها صبعة في فهمها وفك غموضها ، وهو مما لاحظ المؤلف قبل رحيله إلى رفيق الأعلى حتى شرع في وضع رسالة أخرى تكون شرحا للأرجوزة وتحل معانيها وتفك لغزها، وبذلك أنتج رسالة أخرى يشرح الأول بألفاظها ويبين معانيها ليسهل طلبة العلم، وهي رسالته الثانية في علم الصرف المسمى:
- فتح اللطيف شرح حديقة التصريف
ويذكر بعض الباحثين أسباب لتأليف الكتاب، ومن بين هذه الأسباب أنّ الشيخ الزيلعي أراد أن يبرز عضلاته في اللغة العربية ومدى قدرته بالتأليف في اللسان العربي وقواعده في تصريف الكلمة وموازينها، ” فقد قيل: إن الزيلعي حينما انتهى من إنشاد قصيدتيه: جوهرة الوسيلة، وكنز الحقائق في غرض الابتهالات والتوسل واجه نقداً مراً لاذعاً من قبل بعض العلماء في المدن الصومالية الغربية؛ فقالوا: إنه لم يأت بجديد، بل قدم قائمة بأسماء أبرز الشخصيات الإسلامية في العالم الإسلامي في عصورهم المختلفة؛ فأراد الزيلعي أن يرّد خصومه رداً حاسماً، وأن يجيبهم إجابة عملية؛ فألف كتابه”حديقة التصريف”وأرسله إليهم دون شرح، وطلب منهم متحدياً أن يضعوا له شرحاً، ولكن ما كان من هؤلاء المنتقدين، بعد دراسة الكتاب، إلا الاعتراف بقيمة هذا الكتاب الأكاديمية، وفضل مؤلفه، وغزارة علمه ومعرفته.”
أما رسالته “فتح الطيف شرح حديقة التصريف” هي شرح للرسالة السالف الذكر، والدافع وراء تأليفه كما ذكر المؤلف نفسه في مقدمته: “.. ولما وضعت الأرجوزة المسماة بحديقة التصريف في علم التصريف، فجاءت بحمد الله جملة كافية، ولمقاصد هذا الفن حاوية، سنح لي، أي ظهر لي أن أضع عليها شرحا يحل ألفاظها ، ويبين مرادها ، فجاءت بحمد الله كتابا جامعا للمرام، مناسبا للمقام، وسميته : فتح اللطيق شرح حديقة التصريف”.
إذاً الكتاب شرح وتبسيط لكتاب آخر وضعه المؤلف نفسه، كما كان عادة أهل العلم المشغولين للتدريس ولإلقاء الدروس العلمية المنعقدة في حلقات العلم الذي تقصد إليها طلبة العلم، من هنا جاء هذا الشرح مفيدا ونفيسا يتناول على أبواب علم الصرف من أبنية الفعل المجرد وتصاريفه ، وفي حكم اتصال تاء الضمير أو نون بالفعل الماضي الثلاثي المعتل العين وألقاب الأفعال، وأبنية المزيد فيه، وفي المضارع والأمر، وأبنية أسماء الفاعلين والمفعولين، وأبنية الكثرة والمبالغة والمصادر، والمفعل والمِفعل ، وبناء المفعلى وبناء الآلة. وهذا الكتاب يقع في 88 صفحة ن ويعتبر من أروع شروح علم الصرف، وطبع بمطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر في يوم الأربعاء 20 رجب سنة 1357هـ الموافق 14 سبتمبر سنة 1938م.
ويقال أنّ الزيلعي أراد ذلك بردّ خصومه رداً حاسماً، وأن يجيبهم إجابة عملية؛ فألف كتابه”حديقة التصريف”وأرسله إليهم دون شرح، وطلب منهم متحدياً أن يضعوا له شرحاً، ولكن ما كان من هؤلاء المنتقدين، بعد دراسة الكتاب، إلا الاعتراف بقيمة هذا الكتاب الأكاديمية، وفضل مؤلفه، وغزارة علمه ومعرفته”.
والرسالتان “حديقة التصريف”و شرحها “فتح اللطيف في علم الصرف” قد طُبِعا في مصر في مجلد واحد من الحجم المتوسط عام 1938م: أي قبل ثمانين عاماً تقريباً، وهذان الكتابان قام الدكتور الشريف علوي بتحقيقهما، حيث قام بدراسة وتحقيق كتاب حديقة التصريف وشرحه فتح اللطيق.
ورغم أنّ رسالة فتح اللطيف شرح حديقة التصريف عبارة عن شرح لرسالة الزيلعي الأولى، فإنّ بعض الباحثين قاموا بدراسة وتحقيق علمي لها، كما قام فضيلة الدكتور شريف علوي محمد آدم بعمل علمي حول إعادة نشر كتاب الشيخ عبد الرحمن بن أحمد الزيلعي ” فتح اللطيف، شرح حديقة التصريف، ويتكون عمل شريف علوي تجاه هذا الكتاب من مقدمة تتحدث بإيجاز عن حياة هذا المؤلف وعن أبرز مؤلفاته الأدبية واللغوية، ومن ثلاثة أبواب وستة عشر فصلاً. فالباب الأول: الأفعال: ويتكون من ستة فصول تناول فيها المؤلف أنواع الأفعال المختلفة، وعن أزمنتها وأوزانها القياسية والسماعية. والباب الثاني: الأسماء ويتكون من عشرة فصول يتحدث فيها المؤلف بإسهاب عن المشتقات من الأسماء، وعما يطرأ عليها من تغيير وتصريف، وإعلال وإبدال، وعن الأبنية والأوزان التي تأتي عليها سواء أكانت قياسية أم شاذة. والباب الثالث: الخاتمة حيث قدم المؤلف الحمد والثناء إلى ربه سبحانه وتعالى، وشكره على حسن توفيقه وامتنانه بإكمال هذا الكتاب، ثم صلى وسلم على نبيه، وعلى آله وصحبه.
وقد قام الدكتور علوي شريف دراسة تليق بمكانة الزيلعي العلمي مع تحقيق نصوص رسالته وفق المنهج البحث العلمي ، وقد طبع شريف علوي محمود آدم بالمشاركة مع الدكتور محمد بن تركي بن حميد، وقد نجح هذان العالمان في إخراج الكتاب لأول المرة عام 1429هـ الموافق عام 2008م.
ثانياً: الشيخ عبد الرحمن العلي
وهو الشيخ عبد الرحمن بن الشيخ عمر العلي الأبغالي الورشيخي، أحد العلماء المشهورين في القطر الصومالي، وله مؤلفات عديدة، منها ما يتعلق بعلم الصرف مثل رسالته:
- نثر الجواهر في قاعدة الصرف الفاخر
وهي رسالة يتناول بها المؤلف علم الصرف وقاعدته ، وذلك لتكون هذه الرسالة شرحا للامية الأفعال الصرفية المعروفة التي ألفها العلامة الإمام محمد بن مالك الطائي – رضي الله عنه – كما أن هذف المؤلف كان ليسهل طلاب العلم والراغبين في هذا الفن. وكان أصل هذا الكتاب شرحا للامية الأفعال بالغة الصومالية للشيخ آدم بن محمد الصومالي ، ثم شرح المؤلف ليحول هذا الشرح إلى اللغة العربية ولتعمّ الفائدة إلى جميع طلبة العلم المتقنيين باللغة العربية عامة والراغبين في تعمق فن الصرف ومتغيرات الكلمة العربية ، ومن هنا سمى المؤلف كتابه باسمين : أحدهما : نثر الجواهر في قاعدة الصرف الفاخر، وهو الاسم الذي تحمله النسخة التي نتعامل معها في بحثنا هذا. وثانيهما : التحفة السنية في قاعدة لامية الأفعال الصرفية. ومن هنا يجدر أن ننوه بأن المؤلف وضع كتابا واحدا في هذا المنحى وليس كتابين. وعلى أي الحال فإن المؤلف اشتهر في هذا الفن، وكان رحمه الله من الذين يشار إليهم بالبنان ليس في القطر الصومالي فحسب، وإنما في أنحاء أخرى من بلدان شرق إفريقيا المجاورة للصومال مثل كينيا وإيثوبيا وجيبوتي وتنزانيا وغير ذلك. وبما أنه أصبح مشهورا بتفوق هذا الفن قصد إليه راغبوا هذا الفن من طلبة العلم من أنحاء مختلفة في داخل بلاد الصومال وغيره إلي بلدة الشيخ المسماة “بورشيخ” أي حوض الشيخ المتاخمة بالعاصمة مقديشو. والشيخ عبد الرحمن بذل جهدا مضنيا في هذا المنحى ولاسيما كتابه هذا ، حيث قام بشرح وافي للامية الأفعال، إضافة إلى تهذيبه غاية التهذيب، وبسطه لتفهيم الطالبين وحل المشكل بسؤال وجواب حتى صار جامع القواعد وحاوي المقاصد. والكتاب طبع على نفقة بعض أحباب الشيخ المؤلف.
إذاً مما سبق يتضح بأن العلماء في حلقاتهم وأنشطتهم العلمية الأخرى كان كتاب لامية الأفعال لابن مالك في صدارة المصادر التي تدرس إضافة إلى شروحه مثل : البحر الكبير والصغير . بحيث كانوا يركزون على تدريسه وشرحه ونشره.
وللحديث بقية…..
الهوامش:
1- با علوي ، محمد بن أبي بكر الشلي : المشرع الروي في مناقب السادة الكرام آل علوي دون ذكر اسم دار النشر والمكان والتاريخ ، وطبع وقف لله تعالين ص 189 – 190 ؛ انظر الشريف العيدروسي : بغية الآمال ، مرجع سابق ص 41.