في الجزء الثاني من الحوار مع المؤرخ الصومالي الدكتور: محمد حسين معلم علي، نحاول طرح عدد من الأسئلة التي تدور في فلك الثقافة والتاريخ والتأليف، وجهود المفكرين الصوماليين في مجال البحوث وخاصة الدراسات الصومالية، كما سنسأله عن تقييمه للأوضاع الراهنة في الصومال على المستوى الفيدرالي والولائي.
القرن الإخبارية: وإتماما لما تطرقنا إليه من الحديث عن المؤرخين الصوماليين ” أصحاب الأقلام المتميزة في الدراسات الصومالية “حدّثنا عن المؤرخين الصوماليين الحاليين وجهودهم الفكرية والبحثية مثل البروفيسور محمد مختار وغيره؟
د. محمد حسين: البروفيسور محمد حاج مختار حسن ينحدر من أسرة ذات دين وسيادة، فأبوه ملاق مختار، وجده ملاق حسن كانا قادة قبائل الرحنوين، وخاصة قبيلة الليسان التي تقطن في داخل جمهورية الصومال، والصومال الغربي، ومنطقة حدود الشمال المعروفة بـ “NFD” التابعة اليوم لجمهورية كينيا، وهو مؤرخ وأستاذ جامعي في كل من الصومال والمملكة المتحدة، ودولة ماليزيا، والولايات المتحدة الأمريكية، ويكتب عن التاريخ والحضارة، واللغة، والأدب، ويستخدم عدة لغات كالصومالية بشقيها ماي ومحاتري، والعربية، والإنجليزية، والإيطالية، ويعمل حالياً في جامعة سفانا بولاية جورجيا في أمريكا.
البروفيسور محمد حاج مختار وأقرانه من طليعة مثقفي الصومال ورواده في القرن المنصرم، مثل: البروفيسور أحمد إسماعيل سمنتر، والبروفيسور علي خليف غلير، البروفيسور محمد عبده محمد غاندي، والدكتور حسن علي مري، غير أنّ البروفيسور مختار يتميز عن هؤلاء وغيرهم بأنّهم زهدوا البحث العلمي، وانخرطوا في الأزمة الصومالية، وبل وخاض بعضهم في النزاع الصومالي – الصومالي، – بغض النظر عن رؤيتهم ومآربهم – في حين أنّ البروفيسور محمد حاج مختار– حفظه الله – ما زال مكباً على البحث العلمي والدراسات الصومالية، يقدم ما وهبه الله له من العلم والخبرات، ويتجول في المنتديات الثقافية والمراكز العلمية في داخل البلاد وخارجها، مشاركاً بالمؤتمرات العلمية الوطنية والعالمية، وبالأخص مؤتمر الدراسات الصومالية Somali Studies الذي يقام في كل ثلاث سنوات منذ عام 1978م، وهو الوحيد من المؤسسين والرواد الأوائل الذي يواصل مشاركته ودعمه لمؤتمر الدراسات الصومالية ، كما أنّ البروفيسور مختار يتميز عن غيره بتحمله وصبره على النقد الذي بات يوجه إليه منذ بداية الثمانينيات، عند ما طرح رؤاه العلمية في تاريخ الصومال، وكذلك طرحه حول ضرورة فتح حوار وطني حول المسائل الشائكة المتعلقة بحقوق الأقليات و الاعتراف بوجود تعددية ثقافية في الصومال .
والحقيقة أنّ الدكتور تجرأ في ذلك مقدّما نقدا صريحا لتعريفات متوارثة ومتناقلة بين الأكاديميين الصوماليين والباحثين المعنيين بالدراسات الصومالية، تلك التعاريف التي ظن البعض أنها مقدّسة، وبذلك قد فتح آفاقاً واسعةً للبحث العلمي في الصومال، الأمر الذي سهّل للتبادل الثقافي والحوار البناء حول تراثنا التاريخي والحضاري في قوالب مختلفة. بل أنّ الدكتور مختار بلور أفكاره بشكل متوازن، ولم تزعزعه كثرة النقد عن أفكاره قيد أنملة، كما أنّ الهجمات المسمومة عليه لم تزعجه أبدا، والاتهامات الدنيئة التي نبعت غالبا ممن لم يتخصص بفنّ التاريخ، ولم يستطع التحمل بأطروحات الدكتور مختار ونظرياته المؤطرة علميا تجاه تاريخ الصومال وحضارته.
وأعتقد بأن البروفيسور: مختار سوف يظل جبلاً شامخا وثابتاً بأفكاره وتصوراته المعروفة في تصحيح الأفكار ونظرياته تجاه الوطن وتاريخه. نراه يثبت الميدان كالجبل الطود رغم ما مر عليه من انتقادات حادة في الداخل والخارج وخاصة من قبل المثقفين الذين كانوا يرفعون الشعارات الوطنية والوحدة بحماسة شديدة مع انفعالات لا مبرر لها في بعض الأحيان، ومع ذلك فإنّ الدكتور لم يبال لذلك الحماس، بل استمر في دربه صابرا جلدا، وكيف لا، وقد تشرب من معين الأزهر الشريف في جميع مراحل تعليمه العليا، بل ويفتخر بأنه يحمل الثقافة العربية والإسلامية، وأول صومالي حاصل على درجة الدكتوراه في العالم العربي.
القرن الإخبارية: تشهد الصومال في الآونة الأخيرة حركة تأليف غير مسبوقة، إذ نرى في كل شهر تقريبا تدشين كتب جديدة في مقديشو أو المدن الأخرى مثل هرغيسا وغراوي وبيدوا وكسمايو… إلخ فما تقييمك للموضوع؟
د. محمد حسين: الحراك الثقافي والعلمي اللذين نراهما اليوم في الساحة الصومالية بادرة طيبة، وبشارة خير وبركة نحو التقدم الحضاري والتطور المعرفي لأجيالنا الناشئة، ولا غرابة في ذلك ، لأنّ أهل الصومال جزء من هذا العالم المتطور يوماً بعد يوم، و مسايرا مع محيطه الثقافي والعلمي الذي ينمو بسرعة، ولا شك أنّ ذلك سوف يؤثر على حياتنا اليومية، وإنني شخصياً متفائل جداً لمستقبل شبابنا، وأنّ هناك ثورة ثقافية مثمرة، وظهور جيل فريد يبذل قصارى جهده في القراءة والكتابة، عبر اللجان والمراكز الأدبية التي برزت في السنوات الماضية، وخير دليل على ذلك أيضاً ارتفاع عدد النوادي والمنتديات الثقافية في ربوع البلاد- كما أشرنا إليه من قبل – وكذلك الأنشطة الثقافية والحوارات الأدبية التي تجري كل سنة على هامش معارض الكتب التي تتزايد في الآونة الأخيرة. ومن الملاحظ أن استخدام اللغة الصومالية أخذت حيزا واسعاً في الأنشطة الثقافية عموماً، وحركة التأليف خصوصاً، وتليها اللغة العربية، مما يدل على أنّ اللغة العربية وثقافتها لا تقلّ شأناً في التطور العلمي والثقافي من اللغة الصومالية.
القرن الإخبارية: ألّفت كثيرا وجمعت وثائق عديدة عن الصومال حتى أن البعض يصفك بلقب حامل لواء التاريخ في الصومال بعد وفاة الشيخ: أو جامع عمر عيسى، لذا نريد أن نسألك ما هي أهم التحديات التي تواجه الكاتب الصومالي؟ هل هي مشكلة جمع المعلومات أم الحصول على الوثائق أم الطباعة وتكاليفها؟ … أم.. أم … إلخ؟
د. محمد حسين: أولاً: أعتقد أنّ ملأ الفراغ الذي ترك الشيخ أو جامع عمر عيسى ليس سهلاً، وكلنا نحسّ هذا الفراغ الكبير، لأنّ رحيل الشيخ جامع أعتبره شخصياً فقدان متحف وطني مليء بالأخبار والخبرات، ومجرد تتبع حياة الشيخ وجهوده في تاريخ الصومال وأدبه يعتبر بحد ذاتها قراءة مرجع مهم من مراجع تاريخ حضارتنا، لأنّ تجربة حياة الشيخ جامع العلمية والثقافية وما مرّ به من مراحل في تكوين شخصيته ومحاولاته في تسجيل نصوص أدبية بشقيها النثري والشعري، ثم جرأته في رواية أجزاء مهمة لتاريخ الصومال لا شك أنّها بحد ذاتها كفاح وجهاد خاض فضيلته رغم انعدام الدعم والمساعدة من أي جهة كانت.
كان – رحمه الله – ممول نفسه في مجالات الجمع للمادة العلمية، وعملية التأليف، ثم طبعه، وتسويقه. وقد كنتُ قريباً إلى فضيلته في فترة من الفترات، وفتح لي قسماً من تجاربه في كيفية جمع المادة العلمية وبلورتها في قالب يتناسب الوضع الصومالي غير المستقر في أواخر التسعينيات. ومن خلال ما تطرقت إليه من حديث يتجلى بأنّ التحديات التي تواجه الكاتب تكمن في أكثر من حيثية، بدءاً بجمع المادة العلمية التي تتطلب بأن يخوض الكاتب عدة رحلات علمية في أماكن مختلفة، كما أن الكاتب يواجه متاعب عند ما يحتاج إلى توجيه بعض الأسئلة لأشخاص بغية جمع معلومات تخص بإنتاجه يحتاج لاستخدامها، وهذا الأمر يحتاج إلى الأمن والأمان، وهو ما يفتقده الصومال حاليا. ومن ناحية أخرى فالكاتب وحده هو الذي يتحمل دفع تكاليف البحث، بحيث لا توجد جهة رسمية وغير رسمية تشارك في مساعدة مشروع الكاتب. كل هذه المشاكل والعقبات تواجه الكاتب الصومالي بسبب أزمته الحالية ” ضعف مؤسسات الدولة” التي استمرت قرابة 32 سنة.
القرن الإخبارية: مرّت الصومال بمطبات مختلفة من الحرب الأهلية ومراحل المصالحة وثم البدء في مشروع بناء الدولة، ما تعليقك على الحكومة الصومالية الجديدة بقيادة الرئيس الحالي السيد: حسن شيخ محمود؟ وهل تعتبرها أنها أفضل من سابقتها ” حكم فرماجو ” كما يعتبرها كثير من الصوماليين خصوصا النخب المثقفة؟
د. محمد حسين: دائماً الناس يتفاءلون بالحكومات الجديدة لعله يحدث انفراجاً للجو المتأزم في الفترة السابقة، وعلى أمل أن يأتوا تغييراً لنمط الحياة وللمسيرة السياسية. ما حدث في فترة الرئيس السابق السيد: محمد عبد الله فرماجو كان مؤلماً عند ما تلاعبوا بثوابت الدولة وأنهكوا الشعب بالحروب والمشاكل دون أن يطلق طلقة واحدة نحو الحركات الإرهابية، ومن هنا تفاءلنا في التغير السياسي الذي حصل بعد اختيار الرئيس حسن شيخ محمود لمرة ثانية، وها نحن اليوم نرى انهزامات حركة الشباب وما يحصل لها من خسائر بعد قرار الرئيس حسن لمحاصرتهم والقضاء عليهم. وفيما يتعلق بالقضايا الأخرى المتصلة بمسيرة الدولة فلا شك أننا بحاجة إلى تغيير جذري واختيار سياسة حكيمة متزنة، وعدم مهادنة المخرّبين وبقايا النظام السابق سواء في النظام الاتحادي أو في الولايات، وإلا سوف نستمرّ في الدوامة الحائرة وفي النفق المظلم، وبالتالي ستروح وعود الرئيس ومناداته هباءا منثورا، لا قدر الله ذلك.
القرن الإخبارية: بصفتك مثقفا ومهتما بالشأن الصومالي ومنحدرا من ولاية جنوب غرب الصومال، تشهد الولاية هذه الأيام تدافعا مردّه انقضاء الولاية الدستورية للحاكم الحالي: السيد عبد العزيز لفتغرين، وهنالك من المعارضة من يطلب بإجراء الانتخابات في موعدها ويرفض فكرة التمديد، الأمر الذي قد يسبب خلافات جديدة، ربما تتطور إلى مواجهات مسلحة إذا لم يتم احتواؤها، ما هو تعليقك على هذا الوضع؟ وهل لك مقترحات لتسوية الأزمة وحلحلة الموضوع؟
د. محمد حسين: طالما أنّ الصومال في مرحلة حرجة ولم تستقر مؤسسات الدولة لا بد أن يُحترم الدستور وما اتفق عليه المجتمع الصومالي، وإلا سوف نتراجع إلى الوراء، رأينا ما حدث من زعزعة في الأمن والاستقرار في عهد فرماجو عند ما أراد التمديد والتلاعب بالدستور والميثاق الوطني، ولا شك أن الأمور سوف تؤول إلى ذلك إذا لم يتعاقل ساسة الولايات، وأنّ أية محاولة لزعزعة الاستقرار والأمن لا تساعد مشروع بناء دولة المؤسسات، ولذلك علينا أن نحرص كل الحرص على تطبيق المواثيق والعهود التي اتفقنا عليه.
القرن الإخبارية: أخيرا ما توصياتك الأخيرة للمؤلفين الجدد في الصومال وتوصياتك للشغب الصومالي عموما؟
د. محمد حسين: قلوبنا مع وطننا ومسيرته السياسية التي نتمنى لها أن تشهد إصلاحا وتطورا في جميع مستوياتها، بحيث لا يتمّ الاستقرار والطمأنينة في البلد دون الاستقرار السياسي، كما أنّه لا يتم التقدم العلمي والحضاري دون الاستقرار الأمني، ومن هنا ينبغي عدم التساهل في التسوية السياسية والتراضي بين الشركاء في تداول الحكم سلمياً حسب ما ينص الدستور والميثاق الوطني.
وفيما يتعلق بحركة التأليف والبحث العلمي، فلا شك أنّه من البديهي أن ندرك أنّ الأمم تتقدم بالتقدم العلمي والحضاري، ومن هنا علينا أن نتطور دائما بالتعليم في مراحله المختلفة، وكذلك مساعدة وتشجيع الشباب والناشئة في سبيل البحث العلمي، ونرى اليوم التقدم المحدود في مجال التأليف، وأرجو أن يستمر الأمر في هذا المنوال، وأن لا يتوقف أصحاب التأليف عن مواصلة الدرب رغم ما يعترض على طريقهم من المطبات والعقبات، كما أرجو أن يمد صناع القرار يد المساعدة والدعم للبحث العلمي، لا سيما أنّ قادتنا اليوم رواد التعليم والبحث العلمي، وأنّهم يدركون أكثر منا حاجة بلدنا إلى هذا الأمر.
القرن الإخبارية: شكرا جزيلا لكم وإلى مزيد من التعاون معكم لاحقا إن شاء الله.