عندما وضعت الحرب أوزارها في عام 1924 بين جيش المستعمر الإيطالي وقوات المقاومة البيمالية «Bimal Resistance» والمعروفة أيضًا بتمرد بيمال Bimal»«revolt أو ثورة مركا ««Merca Revolt التي قادتها عشائر قبيلة بيمال ضد المستعمر الغازي، وتركزت في أقاليم بنادر، شبيلي السفلي، وشبيلي الوسطي، حطت سيدة كريمة ومهندسة قديرة رحالها على أبواب قرية عشوائية تقع على بُعْدِ بضع كيلومترا شمال خط الاستواء.
كانت هذه القرية المدارية كغيرها من قرى ومدن الوطن الصومالي ما زالت في عام 1924 تعيش على قيم ومنتجات العصور الوسطى، بينما كان العالم من حولها يُعِدُّ نفسه للانتقال إلى عصر ما بعد الحداثة.
عُرِفَتْ هذه السيدة بين أهالي هذه القرية -أي مدينة جمامة الحالية- باسمها الأول “مرجريتا Margarita ” وهي زوجة حاكم ناحية جمامة Jamaame District المعين من قبل السلطة الإيطالية الحاكمة في مقديشو فور انتهاء حرب المقاومة بهزيمة فلول قوات عشائر بيمال في آخر معقل لها في مدينة مركا عاصمة محافظة شبيلي السفلى الحالية.
ومن حسن أو سوء حظ أهل مدينة جمامة – لا أردي- لم تُشغل هذه السيدة أي منصب أو وظيفة في إدارة الصومال الإيطالي، إلا أنها عَرفَت كيف تستغل بذكاء مكانتها الاجتماعية كزوجة لحاكم القرية؛ وذلك بهدف تحقيق حلمها الشخصي، وتنفيذ مشروعها الخاص، والمتعلق بإخراج هذه القرية الاستوائية من العيش على قيم العصور الوسطي البالية، ومساعدتها على احتضان قيم وأنوار عصر الحداثة Modernity مستفيدة من سلطة زوجها و خبرتها الشخصية في مجال التخطيط الحضري Urban Planning.
ويبدو لي، استنادًا إلى القصص والمرويات المحلية التي كانت تحاك حول شخصية مرجريتا أيام طفولتي في هذه المدينة، أن هذه السيدة بدأت في تنفيذ مشروعها المتعلق بإعادة تخطيط هذه القرية العشوائية وتحويلها إلى مدينة صغيرة، جميلة وشبيهة بالمدن الأوروبية في اليوم الثاني من وصولها إلى هناك.
اعتادت مرجريتا في تلك الأيام أن تردد على مسامع القرويين من حولها دون أن يفقهوا قولها: “سأجعل هذه القرية الغبراء مدينة أوروبية صغيرة وجميلة، تمامًا مثل المدن التي عشت فيها قبل أن أختار المجيء إلى هنا، ثم أقوم في المرحلة الثانية بتزويدها بكل الخدمات الضرورية لحياة العصر الحديث؛ لتصبح بذلك عن جدارة مركزا إداريا جذابا لكل القرى والبوادي المحيطة بها.
لم تكن لكلمات هذه السيد وقع في آذان القرويين البسطاء، إلا بعد أن ترجمها المقدشاوي الذي كان برفقتها إلى لغتهم المحلية، وبالتالي أنصب عليه وعلى مرجريتا وابل من الأسئلة عن معنى كلمة “أوروبا” هل هي مدينة كبيرة مثل كسمايو ومقديشو، ومسيرة كم يوم تبعد عن كسمايو، وهل هي أقرب إلى مكة أو المدينة، وهل هناك بحر بين كسمايو وأوروبا، أم أنه بر متصل، وهل كل سكان أوروبا من البيض، أم هم خليط من البيض والسود، وهل يملكون عبيدًا يعملون في المزارع والبيوت كما نفعل نحن؟
وتواصلت مرويات المجتمع المحلى حول هذه السيدة التي تعلمت اللغة الصومالية، وتحررت عن الحاجة إلى مترجم، وأن الجِن الأبيض الذي جاء معها من بلادها دَلَّهَا على محجر في قرية تُرطو Turdho الغير بعيدة، فشقت على الفور طريقا واسعا يسمى بالصومالية جيدجال Jid’gaal لربط محجر هذه القرية بمدينة جمامة.
استغلت مرجريتا هذا المنجم الذي لم يطمثه قَبلها إنس ولا جان، واستخرجت منه أحجارا بركانية ذات ألوان قزحية لتشييد مقار حكومية وأبنية إدارية، وأخرى خدمية لأول مرة في تاريخ هذه القرية التي اعتادت عبر القرون السكن في أعراش وأكواخ من القش والطين، وممارسة حياة رتيبة يسودها حديث يومي ممل عن عذاب القبر وأهوال يوم القيامة، بركات الأولياء، وبالتحديد كرامات الشيخ مرجان المدفون في قرية مانوموفا Maano-Moofa ومعجزات الولي «ممد كيتونجا Mamad Kitonga« المجنون، والخلود في نار جهنم، والصراط نحو الفردوس أكثر من الحديث عن متع و مباهج حياة هذه الدينا التي بين أيدينا.
شيَّدت هذه السيدة أول الأمر مقر إقامة أسرتها الصغيرة، مكتب زوجها، مقر بلدية المدينة، مكتب البريد والتلغراف، مكتب العمل، نقطة الشرطة، المحكمة، السجن، المستوصف، محطة توليد الكهرباء، محطة تزويد المدينة بالماء الصالحة للشرب، دار ضيافة كبار زوار، ومرافق أخرى مثل متنزَّه صغير للأطفال.
لم تكتف بهذا، بل قدَّمت لكل عائلة قطعة أرض ضمن مخطط المدينة لتبني عليها بيتها على هواها، وبذلك قضت بكل سهولة على البناء العشوائي غير المنظم، وأضافت إلى العالم المعاصر في فترةٍ وجيزة مدينةً صغيرة، جميلة، أوروبية التخطيط، وذات بيوت مرقَّمة ومزوَّدة بالماء والكهرباء، ولها شوارع مستقيمة وواسعة تصطف على جوانبها أشجار وافرة الظلال وأعمدة يستضيء الناس بنور سراجها ليلًا.
وفوق كل ذلك، أصبحت “جمامه” التي تشكلت وفق هوى و خيال مرجريتا، مدينة ذات تخطيط بهيج أحَبَّه واِفتَخرَ به كثيرًا كلُ مَن عاش فيها بما في ذلك أمثالي أبناء الجيل الثالث أو الرابع الذين لم يعاصروا سنوات انشغال مرجريتا في تغيير شكل نمط حياة هذه القرية الاستوائية المجهولة التي أصبحت فيما بعد مدينة جمامه المعروفة بتصدير الموز إلى العالم الخارجي.
ليس هذا فحسب، بل ربما أصبحت مدينتنا الصغيرة، بفضل خدمات هذه السيدة الجليلة أول مدينة صومالية تتمتع بخدمات البلدية “Municipality” الأساسية كالعناية بالمدرسة، المستوصف، تطعيم الأطفال، جمع القمامة، العناية بشبكات الكهرباء والماء، جمع الضرائب، إصدار الرخص وغير ذلك من الخدمات التي تقدمها البلديات للسكان المحليين.
وهكذا وبمرور الأيام، أصبح لكل أسرة قاطنة في نطاق مخطط المدينة ملف خاص بها يحوي – من بين أشياء أخرى – أوراق ملكية الأسرة لأرض بيتها، وشهادات ميلاد أطفالها. وبذلك أصبحنا نعرف – ولأول مرة في بلادنا – تواريخ ميلادنا وتواريخ ميلاد أبنائنا وأسلافنا وأحفادنا على درجة عالية من الدقة.
وبفضل سهولة إجراءات مكتب البلدية النشط، تساوت المرأة مع الرجل إلى درجة ما؛ حيث أصبح الجميع ذكرًا كان أم أنثى، يحملون في جيوبهم بطاقات هوية ID Card تثبت (ولأول مرة في تاريخ الصومال) أنهم مواطنون Citizens ينتمون إلى ناحية جمامه، وإلى الوطن الصومال الإيطالي.
وبذلك أصبحت مدينتي الصغيرة عالما آخر غير الذي عرفه إنسان ذاك الزمن في مناطق أخرى من أرض الوطن؛ حيث كاد حمل بطاقة الانتماء إلى التراب والطين ومسقط الرأس أن يحل محل الانتساب إلى قبيلة رعوية متنقلة أبد الدهر.
وبعد أن تعرَّف على نفسه كمواطن، وكفرد يحمل بطاقة هوية خاصة به، ويرتزق من عرق جبينة عن طريق العمل في الشركات الصناعية المتنافسة أو مع الحكومة المحلية زاد بطبيعة الحال شعوره بالانتماء إلى مسقط رأسه، والمدينة المدونة في بطاقة هويته التي توثق وجوده في الكون وفي هذه المدينة والوطن كفرد مستقل له كينونة خاصة به، وعلى اتصال مباشر بحكومة توفر له الأمن، الحماية، العمل، تكوين أسرة، والاستقرار، كما فَتَرَ من جانب آخر – ولو بقدر يسير – حاجة مواطن “مدينة جمامه”إلى عشيرة تؤويه.
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الشبكة، وإنما تعبر عن رأي أصحابها!
قصة جذابة،