يحلّ شهر رمضان المعظم بعد أربعة أسابيع على الأكثر، ضيفاً كريماً على المسلمين أينما حلّوا في ربوع العالم الإسلامي، ولاحت في الآفاق نفحاته، والأجواء تتهيؤ لملاقاة ضيف الرحمن وترحيبه، وتبتسم لغرة الهلال فيها، وطفق المسلمون في مراسم استقبال حافلة ومليئة بالروحانيات، وبصدر رحب بل وقلب أوّاب يقول: “مرحباً مرحباً يا رمضان، ويا مرحباً بك يا رمضان” فهنيئاً لهم ولنا أن بلغنا المولى عزّ وجل هذا الشهر الفضيل، والله فدموع الفرحة تغمرنا نحن المسلمين بقدومك يا رمضان .. اللهم بارك لنا في شعبان وبلّغنا رمضان.
فرمضان شهر الخيرات والبركات، وشهر البذل والعطاء، وموسم التنافس في الطاعات من صوم نهاره، وقيام ليله، وتلاوة للقرآن الكريم آناء ليله وأطراف نهاره، وطلب استغفار للمولى عزّ وجلّ من شروق الشمس إلى غلس الفجر، وكما أن رمضان شهر الصبر والزفرات، وشهر المعاني السامية التي تفيض على قلوب الصائمين. وقد شُرع هذا الشهر العظيم لتربية الأمة المسلمة على الصبر وتحمل المشاق في سبيل الله، فهي أمة عمل وإنتاج وجهاد، ولا يتم ذلك من دونه، والصبر أساس كل فلاح، فإنه من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، وكفى بالصيام باعثا على الصبر، وفيه يحبس الإنسان نفسه طواعية عن لذائذ الحياة ابتغاء وجه الله عز وجل.
إنه معلوم من الدّين بالضرورة لدى كل مسلم ومسلمة مهما كان قدرهما للعلم الشرعي، وإن الصوم ركن من أركان ديننا الحنيف، وإن الدين عند الله الإسلام، إلا أن لرمضان سمات وخصوصيات يتميز بها عن غيره من العبادات بل وحتى من الأركان الأخرى للإسلام، بهذا حريّ بالمسلم أن يهتمّ بهذا الشهر العظيم، ويغتنم من فضائله الوافرة، وثوابه الجزيل.
رمضان مدرسة للتعلم والتعليم، والتوبة والإنابة، ومحطة للتزود بالطاعات والنوافل، فيها دروس وعبر، ولها شروط وأحكام، قيم وفضائل، ربح وخسارة، بل جزاء وعقاب، ينخرط المسلم فيها مرة في العام، إلا أنه سينجي ثمار نتاجها طوال حياته في الدنيا وحتي قيام الساعة، بل وإلى الأبد فسبحان الله، سبحانك ربي سبحانك.!!
اسم هذه المدرسة “رمضان” قيل إن الكلمة مشتقة من “رَمِضَ” يَرْمَضُ رَمَضاً ورَمِضًا: الشيءُ اشتدّ حرّه، والرمضاء: شدة الحرّ، والأرض أو الحجارة التي حميت من شدة وقع الشمس.([1]) وأن رمضان في معظم الأعوام، وفي أغلب الدول العربية، بل وبعض الدول الإفريقية يأتي في شهور تشتدّ فيها الحرارة، ولطبيعة هذا الجو أن جوف الصائم أيضاً تشتدّ به الحرارة من العطش والجوع. وقيل إن “رمضان” اُشتقّت من رمض الذنوب أي إحراقها من شدة الحرارة. وكلا التأويلين إن اختلفا لفظاً وتفسيراً إلا أنهما ينصبان في قالب مضمون ودلالة واحدة.
جعل المولى عزّ وجل أيام رمضان 30 يوماً أو 29 يوما فقط، وهو ما يُعادل 8% من أيام السنة، إذ لا مجال لاحتهاد مجتهد طابت نيته في إبلاغ عدد أيامه 31 تصاعداً، ولا 28 تنازلا، مهما بلغت درجته العلمية، فكلامه أو اجتهاده مردود عليه، “من أحدث في أمرنا هذا فهو ردّ أي مردود” ووصفه الخبير العليم “أياماً معدودات” لحكمة بالغة بالغة يعلمها هو. ولكن بتفسيرنا وفهمنا البسيط للمعاني الظاهرة، أن المعدودية تشير إلى الندرة، والندرة فحواها العظمة والقيمة، بل ودليل لإبزار الأهمية البالغة، إذاً ألا تستحق تلك المعدودات جهودا إضافية من المتسابق حتى ينال رضا ربه، ويفوز على نعمائها، نعم… وعليه “فليتنافس المتنافسون”([2]).
أما شروط التحاقك بهذه المدرسة وأداء شعائر الصوم فيها، فهي أن تكون مسلماً، لا يقبل فيها غير المسلم، وأن تكون بالغاً وراشداً حيث مرحلة تحمل المسئولية والاعتماد على الذات في أمور العبادات، وعلى قدرة في القيام به من حيث الصحة الجسدية والعقلية، وإلّا “فمن كان منكم مريضاً أو على سفرٍ فعدّة من أيام أخر”([3]) ، وكذلك النية.ومن الشروط أيضاً عدم تناول الطعام والشراب نهاراً، إلى أن يدبر النهار من هنا، ويقبل الليل من هنا، كما قال المصطفي عليه السلام: “إذا أقبل الليل من ها هنا وأدبر النهار من ها هنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم”([4]) حينئذ كلوا واشرب حتى يتبين لكم الخيط الأبيض([5]) من الخيط من الأسود من الفجر.([6]) بل وفي طيات هذا الشرط التعميم، حيث لا يصوم الصائم عن الأكل والشرب فقط، وإنما تمسك الجوارح عن كل مؤثر سالب على صوم المسلم أو المسلمة، يصوم اللسان عن قول اللغو والكذب والنميمة، ويصوم البصر عن نظر المحرّمات والفواحش ما ظهر منها وما بطن، ويصوم السمع عن سماع الأكاذيب وعن قيل وقال، ويصوم عن أكل الحرام، لهذا يتضح أن الصوم هنا عن كل ما يأثر عليه سلباً، ويجب على طلاب هذه المدرسة الالتزام بالشروط، وإلّا ينطبق عليهم حديث رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم معلم البشرية القائل: « من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل، فليس له حاجة في أن يدع طعامه وشرابه»([7]). فمعنى رمضان إذاً الاستعلاء عن الشهوات صغيرة كانت أم كبيرة، وكل ما من شأنه أن يلوِّث ويعكر صفوة جَوِّه الروحاني، وهو الترفع عن سفاسف الأمور التي لا تليق بجلاله وعظمته، حتى ينال الصائم القائم ثواب أعماله وفضل نفحاته الذي يمهده إلى دخول جنة ربنا من بابها الريان.
أما مميزات هذا الشهر: فلشهر رمضان الفضيل مميزات عظيمة وخصائص جسيمة الفائدة والعبرة، يتميز بها عن غيره من شهور العام، وأكبر ميزة له أن جعل الله المولى عز وجل نزول القرآن الكريم فيه، واصطفاه له “شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس”([8])، ومن أجزل الخاصية أن جعلت فيه ليلة واحدة أفضل من ألف شهر، وهي ليلة القدر ، “وما أدراك ما ليلة القدر، ليلة خير من ألف شهر، تنزّل الملائكة والرّوح فيها بإذن ربهم من كل أمر، سلام هي”([9])، فهي الخير والسلام حتى طلوعالفجر.
علماً بأن ألف شهر يساوي حوالي 83 سنة، هل يا ترى جميع أعمار الناس تصل إلى ثلاث وثمانين سنة، إلا القليل منها، لأنه أعمار أمة محمد صلى الله عليه وسلم ما بين ستين إلى سبعين، والعبرة في مضمون الآية ليست مجرد التعمير، وإنما الخير الوفير والثواب الجزيل فيها، حيث تُغفر فيها الذنوب ولا ترد فيها الدعوات، إذاً فلحظات هذه الليلة لا تُعوَّض ولا تُقدَّر بثمن، لما تحمله معها من خيرٍ عميمٍ، وأجرٍ وفيرٍ، ورحمةٍ لا متناهية، وفضيلة وسع حجمها لفضائل أعمال ثلاث وثمانين سنة. ومن مميزاته أيضاً تُفتَح فيه أبوابُ الجنان، وتَهبّ على الصائمين ريحُها، وتُغلَق فيه أبوابُ النيران، وتُصفد بل وتُسلسل فيه الشياطين، وفيه الغفران والرحمة والعتق من النار، – اللهم اجعلنا من عتقاء هذا الشهر – . ففي رمضان تتضاعف أجور كافة الأعمال وأنواع العبادات، لذا يُستحسن من الصائمين أن يتفرغوا له من كلِّ شئ إلَّا من اللوازم كالعمل والدراسة.
وله مميزات وفوائد صحية حسب قول الأطباء حيث يساعد الصيام على معالجة التهابات المعدة، وتنظيم نسبة السكر في الدم، ويعمل على تنظيم ضغط الدم، ويعالج الحصوات، ويعمل على معالجة العديد من الأمراض الجسديّة الأخرى. أمّا على المستوى النفسي للإنسان، فإنَّ للصيام دوراً كبيراً في تهذيب النفس الإنسانية عن طريق منعها عن شهوات الأكل والشرب والملذات.
وفي رمضان ضمانات من ربّ العالمين، ووعود من رسوله الكريم، وهي التي تقوّي عزيمة الصائم في تحمل الجوع وتكبّد المشاق طوال الشهر، وتجعله يلهف للقاء ربّه، وتسلّم جوائز الوهّاب المنان، وأكبر ضمانة وجائزة يقدمها الباري لعباده الصائمين هي غفرانه كل ما تقدم من ذنب الصائم، إذ يقول الناطق باسم الخالق الديان، ورسوله إلى العالمين كافة: “من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه”([10]). وفيرواية أخرى “من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه”، فما أعظم من ضمانة وهدية. ورمضان يشفع للعبد يوم القيامة حيث يقول: “ربي منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفّعني فيه” ومنها: يكون الصائم مستجاب الدعوات،وله باب خاص في الجنة، يقال له ريان لا يدخل منه إلا الصائمون.
إذاً الفوز بهذه الجائزة، والحصول على هذه الضمانات التي من لدن حكيم عليم، فلا بد من خلوة مع النفس لمحاسبتها قبل بدايته، وحثّها على الاستعداد لاستقباله، والتخلص عن المشاغيل اللامتناهية، وكل ما من شأنه تضييع الوقت، وتفويت الفرص. وأيضاً طلب العفو من المظلوم، وسماح الظالم، وتطهير النفس من الضغائن والأمراض الاجتماعية، وردّ المظالم. فلنحاسب أنفسنا صباح مساء، فلنسائلها قبل وحين كل غروب شمس، هل زدنا الإنتاج فيه، أم ضيعنا اليوم بالنوم والكسل؟ وبعد الفجر … هل مرت الليلة بالقيام والتهجد والذكر، أم بالسهر على أحدث الأفلام أو النوم عن الفضائل؟ هكذا دواليك حتى لا تفوتنا الفرصة. ولا تنس حبيبي الصائم أن الله سبحانه وتعالى يبسط يده ليل نهار ليتوب المذنب فيهما. وفي الختام هل ولىّ رمضان وأنت في حبّ وشوق، أم ولّى وأنت في ندامة عن فوات الفرص الذهبية فيه، أو تعاني جوعاً وعطشاً، بل وأنت أشد شوقا إلى الطعام والشراب وملذات النفس؟
أما العبر والدروس فمن أعظم الدروس التي تستفاد من هذه الفريضة العظيمة، أنها دعائم توحيد متينة للمسلمين، مهما كانت ظروفهم الاجتماعية والثقافية والسياسية متباينة إلا أنهم أمة واحدة في الدين توحّدهم فريضة الصيام، ولا يختلفون في أداء طبيعة هذه الشعيرة، بل ويعوِّد المسلمين النظام والاتحاد، ولأجل هذا جعل المولى عزّ وجل فريضة الصوم ركناً أساسياً من أركان دينه الحنيف، وهكذا جميع أركان الاسلام أصبحت رمزاً راسخاً وشامخاً لعوامل الوحدة بين المسلمين رغم الظروف.
ومن العبر والدروس أيضاً نشر العدل والمساواة بين المسلمين، وتمليك النفس ملكة التقوى التي هي من أعظم أسرار الصوم، وتقوية الإرادة والعزيمة لدى الشخصية المسلمة، وأخيراً معرفة الغني قدر نعمة الله عليه. وغيرها من الدروس.
وإذا كان رمضان يعني كل هذا فأكثر من الفضائل والخيرات والبركات، والضمانات وتلكم الهدايا والجوائز المادية والروحية القيمة، فهو بلا شك موسم حصاد، وفرصة ذهبية ثمينة للمغفرة والتوبة وغسل الأوزار والخطايا، اسمحوا لي يا من يستعدّ لاستقبال شهر الرحمة أن أهيب وأبعث رسالة مفتوحة للأمة الإسلامية جمعاء أفراداً وجماعات، وخاصة الشعوب المسلمة التي تعاني من أزمات طبيعية وإنسانية أن تستغلّ من هذه الفرصة السانحة التي قد لا تتكرر، وتمدّ أكفّ التضرع إلى الله سبحانه بل وتحسّن علاقاتها مع ربها ليرفع ويكشف البلاء والهموم عنها.
ولنعلم جميعا أن أبواب الخير فيه كثيرة، تحتاج منّا إلى الحرص عليها، والمبادرة إلى كسبها، والتنافس في تحصيلها، وتُفتح تلك الأبواب بكثرة تلاوة القرآن العظيم بخشوع وتدبر في معاني أحكامه، وكثرة ذكر الله -عزّ وجلّ-، والإكثار من الإنفاق والصدقة وكل الخيرات. وإلّا سوف يمرّ رمضان مرّ السحاب فيندم الصائم على تفريطه، ويتحسر على إضاعته، حيث لا ينفع الندم.
وفقنا الله صيامه قيامه وصالح الأعمال فيه إن شاء الله.
[1] – المعجم العربي الأساسي، انظر مادة ” رَ مِ ضَ “، ط1، دار مطابع بيطا، 1991م.
[2] – سورة المطففين، الآية 26.
[3] – سورة البقرة، الآية 184.
[4] – صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب متى يحل فطر الصائم.
[5] – الخيط الأبيض: ضوء الصبح المنفلق … والخيط الأسود: جنح الليل المكتوم.
[6] – اقتباس من الآيات الصيام في سورة البقرة 187.
[7] – أخرجه البخاري.
[8] – سورة البقرة، الآية 185
[9] – سورة القدر، الآيات.
[10] – رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما.