- جيبوتي
تنامى نشر الدعوة الإسلامية وبعض الحلقات العلمية في ” ساحل الصومالي الفرنسي ” السابق، وجمهورية جيبوتي حالياً، عقب رحيل المستعمر الفرنسي واستقلال البلاد عام 1977م إذ كانت المنطقة قبل ذلك مشغولة بالتحرير ومقاومة الاستعمار. وعند ما رحل المستعمر تدفق العلماء إليها وعقدوا بعض الحلقات العلمية التي كانت يغلب عليها الطابع الديني، بحيث كانت تسيطر عليها العلوم الدينية في الميدان، كالتفسير والحديث والسيرة النبوية وبعض الدروس الفقهية.
وعلى الرغم من أنّ مستوى النشاط العلمي في جيبوتي لم يصل إلى مصاف الحلقات العلمية التي كانت تجرى على مستوى المناطق الصومالية الأخرى، إلّا أننا نستطيع أن نجزم القول بأنّ الحركة العلمية في جيبوتي عموماً، وبخاصة الدراسات الإسلامية والعربية في الزوايا والمساجد قد انتعشت وتطورت بشكل ملحوظ. وقد ساهم في تحريك ودفع عجلة هذا الانتشار الديناميكي عدة عوامل هامة يجب أخذها في الاعتبار عند الحديث عن الحركة العلمية في جيبوتي.
ونشير هنا إلى ثلاثة منها:
العامل الأول: الجولات العلمية التي كان يقوم بها العلماء في المنطقةومكوثهم فيها ردحاً من الزمن ، لمناخها العلمي ولأجوائها الأمنية والهادئة التي استمالت قلوبهم وانجذبت أنظارهم إليها باعتبارها أرضية صالحة للإبداع وحاضنة للعلماء والمثقفين؛ الأمر الذي أدّىإلى استيطانهم فيها لفترة طويلة؛حيث استطاعوا خلالها الإثراء في الحياة العلمية والفكرية في البلاد من خلال الجهود والأدوار العلمية التي كانوا يقومون بها أثناءالحلقات العلمية في الزوايا والمساجد، والمدراس والمعاهد.
ومن هؤلاء الرُّوَّاد – على سبيل المثال: – الشيخ عبد الله عمر نور الأوغاديني، صاحب كتاب “مسيرة الإسلام في الصومال الكبير” وهو شيخ فاضل، ومن الأوائل المتخرجين في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، وقد اختار فضيلته أن يعمل في جيبوتي؛ حيث رحل إليها بعد تخرجه في الجامعة، وبقى فيها داعياً ومعلماً، وتزوج فيها من ابنة الشيخ علي حاج إبراهيم المشهور بالشيخ سوبنيالليساني ( صاحب مدرسة الفلاح في درردوا ) وقد استقر الشيخ عبد الله فترة من الزمن في جيبوتي.
– الشيخ عمر أحمد الأزهري المجيرتيني، وقد عاش مع أسرته كل من الصومال وجيبوتي والحبشة. وقد ترك فضيلته بيت علمي وثقافة، ومن سليلته علماء ومفكرون وقانونيون وإعلاميون، وهو صاحب مجهود دعوي وسياسي وفير في المنطقة. – الشيخ أحمد بشير بن محمد بن عبد الرحمن الغرغري الدري، أحد العلماء الصوماليين الذي اقام في جمهورية جيبوتي برهة من الزمن، وكان له نشاطه العلمي، وهو من علماء منطقة الصومال الغربي وخاصة بلدة هورسو المجاورة لمدينة درردوا، والشيخ أحمد بشير اشتهر بنشر العلم والمعرفة ، وكان إماما للمسجد الجامع في درردوا وخطيبها المفوه، وقد عرفه الناس بالتواضع وحسن الخلق وحبه لذوي العلم وتوقيره إياهم. وقد أخبرني فضيلة الشيخ عبد الله علي جيله الإسحاقي بأن الشيخ انتقل فيما بعد إلى الجمهورية الجيبوتي بعد الحرب الصومالية الإثيوبية عام 1977م وإثرها استأنف نشاطه الدعوي ونشره للعلم، وكان الشيخ مشهوراً ومحبوباً في أوساط العلماء وطلبة العلم في قطر جيبوتي، ثم رجع إلى بلده الأصلي عقب كفاح طويل في أداء رسالة الإسلام في ذاك الربوع، وما أن وطأت قدماه في أرض الوطن الذي طالما عاوده الشوق والحنين إليها إلّا ووافته المنيةالتي كان على موعد معها بعد وصوله إليها بأربعة أيام، وتحديدا في يوم الأربعاء 15/ 1/ 1984 رحمه الله رحمة واسعة.. وهو صاحب كتاب ” نزهة المشتاقين؛ شرح أنسية العاشقين في معجزات سيد المرسلين “.
العامل الثاني: عودة بعض الرحلات العلمية إلى البلاد بعد نيل أصحابها المعرفة والعلم من مناهله الأصلية في اليمن والحجاز ومصر، وبدورهم أثَّروا في الحياة العلمية؛ لأنهم صاروا معلمين وأساتذة في المدراس التي كانت قائمة آنذاك، والبعض منهم أسسوا مدارس ومعاهد متطورة على غرار المدارس والمعاهد في البلدان التي عاشوا فيها.
لقد جسدت الآثار التي تركتها البلدان الإسلامية على طلاب العلمتواصلا ثقافيا، والذي بفضله ازدهرت الحياة العلمية في جيبوتي، فأضافت إلى الحركة العلمية – بشقيها النظامي والتقليدي – نوعاً من الازدهار والتطور بصورة سريعة وفعالة. ولا غرابة في ذلك؛ لأنّ الرحلة العلمية إلى الخارج كان يعتبرها أهل العلم نوعا من الدعوة والجهاد، وغالبية طلبة العلم كانوا يرحلون إلى الحرمين الشريفين أو إلى القاهرة، وكان من ثمراتها أن انضم غالبية هؤلاء إلى الجامعات في المملكة كالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ، وجامعة أم القرى بمكة المكرمة، وجامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض، كما لحق العض منهم بالأزهر الشريف في القاهرة.
العامل الثالث: مدينة درردوا في منطقة الصومال الغربي، باعتبارها بوابة لجيبوتي ليس بأنّها – أي درردوا –، كانت مصيف جيبوتييرحل إليها الناس في فترة الصيف، وكان يفد إليها طلبة العلم في المنطقة لينهلوا من مناهلها العلمية في المساجد والمدراس والمراكز الأخرى.
- العامل الأخير: يتمثل في دور مدرسة الفلاحالتي كان يقودها ردحاً من الزمان أحد أعلام الصومال ، وهو الشيخ علي إبراهيم سوبنيالليسانيالرحويني رحمه الله ، وقد تخرج في هذه المدرسة كوكبة من طلبة العلم الذين صاروا فيما بعد علماء أجلاء مثل الشيخ محمد معلم حسن الحوادلي، والشيخ القاضي موغيسمَتَـر العيساوي وغيرهم، كما تخرج في هذه المدرسة بعض قادة المجتمع الجيبوتي، ويكفي أن نشير على سبيل المثال فخامة الرئيس إسماعيل عمر جيلي الذي استفاد من هذه المدرسة في فترة الشيخ علي إبراهيم المذكور آنفاً. وكانت جيبوتي تمتاز بأنّها كانت همزة الوصل بين جمهورية الصومال ومنطقة الصومال الغربي، وكانت معبر كثير من الناس ، ومن بينهم علماء وطلبة علم.
ومن البديهي أن يترك هؤلاء آثاراً علمية، والتي ظهرت بصماتها -فيما بعد – في المدراس والمعاهد العلمية التي تخرج فيها كثير من الطلاب الذين رحلوا فيما بعد إلى اليمن والسعودية والعراق وسوريا ومصر وغير ذلك. وبعد رجوع هؤلاء أثروا من جانبهم في الحراك العلمي والثقافي ، بل ونشطت اللغة العربية من خلال المدراس والمعاهد والمنتديات الإعلامية، وكان لجامعة جيبوتي النصيب الأوفر من ذلك النشاط؛ حيث لعبت دوراً مهماً في تفعيل الحركة العلمية في المنطقة برمتها.
وللحديث عن جيبوتي بقية..