واستكمالا لحُلمها النبيل، جهزت مرجريتا على ضفة نهر فرعي صغير، مجزرة عصرية مجانية، تغسل آليًا، ومفتوحة للجميع على مدار الساعة، وبذلك تحرر الأهالي ولأول مرة في تاريخهم عن عادة إزعاج أطفالهم بإراقة دماء ذبائحهم داخل أسوار بيوتهم.
لم تكتف مرجريتا بهذا، بل أقامت سوقا خاصة باللحوم، إلى جوار أسواق متخصصة، مثل سوق بيع الحبوب، الخضروات، الألبان، الحطب، الماشية، بل وحتى محبس خاص بالحيوانات التي تجوب المدينة.
وفي خطوة حضارية أخرى، أنشأت مرجريتا في عمق غابة قريبة من ضفة النهر، حديقة غارقة في بحر من الزهور، تحرسها من كل جانب أشجار أوروبية شامخة تسمى بالصومالية شَوري Shawri ، ثم أقامت في وسط هذه الحديقة مدرسة ابتدائية على نمط العمارة الرومانية القديمة ذات الأعمدة العالية والأسقف المرفوعة، والنوافذ الواسعة، وبذلك أصبح في متناول أطفال المدينة فصول دراسية جيدة، ومقاعد تناسب أحجامهم الصغيرة، وأصبحوا يتلقون في هذه البيئة المريحة للنفس والمثيرة للعقل دروسا عصرية تتناسب مع عقولهم، وتعود عليهم بالنفع في مرحلة لاحقة من حياتهم عن طريق مواصلة الدراسة أو التدرب على مهنة مفيدة،أي على عكس حالهم عند معلم الدكسي Dugsi؛ حيث يجلس التلاميذ القرفصاء فوق أرضية مغبرة، ويحفظون كل يوم عن ظهر قلب – والسوط على ظهورهم-آيات قرآنية لا يفقهون معاني كلماتها، ولا تساعدهم على احتراف مهن وحرف تعود عليهم بالنفع في مرحلة مبكرة من حياتهم.
والجذير بالذكر هنا، قبل مغادرة هذه النقطة أن مبنى هذه المدرسة ذات الأعمدة الرومانية الشاهقة أصبح بمرور الزمن أيقونة مدينة جمامه وأحد معالمها الرئيسة.
ليس هذا هو كل ما فعلته هذه السيدة الكريمة في سعيها الدؤوب لربط هذه القرية المنسية بالحداثة، بل تقول المرويات المحلية أنها قامت في بعض أيام شهر رمضان بجولة استطلاعية لمساجد المدينة الثلاثة ( ربما بحثًا عن زخارف أو رموز دينية خاصة بالتراث الإسلامي الصومالي) فوجدت أن هذه المساجد بدون مآذن، وأنها مبنية من القش والطين، ولا تختلف في أي شيء عن بيوت القش والطين التي يسكن فيها أهالي المدينة ، ولا توجد فيها دورات مياه، وأن الوضوء فيها يتم من مياه بركة راكدة مليئة بالطحالب الخضراء تُسمَّى القُلَّتين.
وتواصل المروية، أن هذه السيدة التي كانت تدخِّن بشراهة لا مثيل لها، وتدمن العمل اليدوي، وتتحرك دومًا بقميص نصف كم، وبنطلون قصير Short تشدُّه في وسطها بحزام عريض، شرعت – بعد أيام من جولتها في مساجد المدينة- في إقامة مسجد من نوع آخر.
مسجد من حجر وقرميد، وأرضية من رخام أملس تشعر أقدامك الحافية ببرودته، حتى لو تعامدت شمس الظهيرة فوق رؤوس البشر، والتهبت الأرض تحت أقدام الحفاة. مسجد تتوفر فيه جُلّ متطلبات الصحة والرفاهية المتوقع توفرها في دور العبادة في عصر الحداثة.
ألحقت مرجريتا بهذا المسجد (الذي كان في الواقع تحفة معمارية رومانية في منطقة استوائية) مرافق خدمية كان مجتمع المدينة في أمس الحاجة إليها، مثل دورات مياه مريحة لقضاء الحاجة، ودسته كاملة من غرف الاستحمام (الدش) Bathroom Showers ومستبات إسمنتية للغسيل، وحبال تجفيف الملابس لكل من أراد الاستفادة من هذه الخدمات أثناء أداء فرائضه الدينية في المسجد.
أما مكان الوضوء في مسجد السيدة مرجريتا، فلم يعد يحتوي على بركة القلتين الراكدة، كما كان الحال في المساجد الأخرى، بل مياه جارية من صنابير أمام مقاعد وضوء أسمنتية ثابتة ومنفصلة ومتباعدة عن بعضها البعض بهدف استمتاع كل شخص بأداء طقس الوضوء بمفردة وبعيدًا عن الآخرين.
وعلى عكس المساجد الأخرى – وكما كان متوقعًا- تحول مسجد مرجريتا مع الأيام إلى مكان كخلية النحل لا تهدأ فيها الحركة آناء الليل وأطراف النهار.
وبطبيعة الحال، كان أكثر المستفيدين من خدمات هذا المسجد هم البدو الرحل وسكان القرى المجاورة وزوار المدينة، والعمال المهاجرين وعابري السبيل، مع استثناء “النساء” من الاستفادة من خدمات هذا المسجد بسبب التقليد الإسلامي السائد في تلك الأيام والقائم على عدم دخول المرأة للمسجد، حتى في حالة الطهر، وأن تكتفي بالصلاة في بيتها.
وتالية لتوفر هذه الخدمات الحديثة مجانًا في هذا المسجد، إلى جوار جودة التهوية والإضاءة الليلية زاد – بطبيعة الحال- عدد الشيوخ القائمين بتدريس الفقه في أروقته، كما زاد عدد طلابهم بعد أن أصبح المسجد مصدر زرق خاص بهم عن طريق تحصيل رسوم من مستخدمي حمامات الدش والمغاسل، إلى جوار بيع أشياء بسيطة مثل الصابون ، السُّبَح، والعطور والبخور في داخل المسجد مقابل التزامهم اليومي بتنظيف محيط المسجد والمرافق التابعة له دون مقابل.
وفوراً، أصبح من المعتاد أن يؤدي هذا المسجد الجميل والجذاب وظيفة فندق خمسة نجوم المجاني لكل من أجبرته الظروف على البيتوتة في المدينة، كما أصبح مكان القيلولة المفضل حتى لبعض سكان المحليين.
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الشبكة، وإنما تعبر عن رأي أصحابها!