في الحلقة السابقة عرضنا إشارة بسيطة إلى الحركة العلمية في جيبوتي، وعوامل ازدهارها في العقود الأخيرة، ومدى تفعيل ذلك الساحة بشكل عام؛ ولاسيما فيما يتعلق بالحلقات العلمية في جيبوتي، ولا شك أنّ جل هذه الحلقات كانت تغلب عليها العلوم الدينية – كما أسلفنا من قبل – وكيف لا، وهذه الحلقات كان يقودها العلماء الذين أعطوا جلّ اهتمامهم بالعلوم الدينية وأساسيات الشريعة الإسلامية، إلى جانب التربية الروحية، ومع ذلك لم تكن العلوم العربية غائبة من الجهود العلمية التي كان يبذلها هؤلاء كالنحو والصرف والمنطق، وغير ذلك.
ولتوضيح ذلك نأخذ مثالين فقط من هذه الحلقات التي قام أصحابها بتدريس علم الصرف، وهما:
– حلقة الشيخ عبد الله علي جيله – حفظه الله – في جيبوتي ، وقد كانت حلقته في مطلع التسعينات من نهاية القرن المنصرم، وكان يدِّرس فيها كتاب “لامية الأفعال ” لابن مالك، وكذلك كتاب “حديقة التصريف في علم الصرف” وخاصة بعض شروح الكتاب المذكورة سابقا. الجدير بالذكر أنّ كتاب تصريف العزي قد حظي إقبالاً وتنافساً في شرحه ونسخه وطبعه ونشره، بحيث كان هذا الكتاب موجزًا في تأليفه مختصرًا في ألفاظه مضغوطًا في تراكيبه محكمًا في عباراته، ومن هنا احتاج إلى من يبسط عباراته، ويحلل تركيباته، ويشرح ما غمض من ألفاظه؛ فتجرد لهذا العمل العلمي مجموعة من العلماء أسهموا في شرحه وتعليقه وضبطه، وحتى في اختصاره ليسهل لطلبة العلم الجدد في حقل اللغة العربية وخاصة الصرف.
وفيما يتعلق بحلقة الشيخ عبد الله علي جيله التي نحن بصددها، فمن المعروف أنّ فضيلته كانت له حلقة دائمة في مختلف العلوم والمعرفة، والتي كان لها طابع ديني بسبب تركيز الشيخ عبد الله على تدريس القرآن وعلومه والحديث وعلومه والفقه وأصوله، وفي الوقت ذاته لم تكن غائبة عن حلقته دروس اللغة العربية وآدابها، كالنحو والصرف مثلاً، علماً أنّ دروس الشيخ مسجلة وتذاع عبر الوسائل الإعلامية على مستوى الصومال الكبير؛ وذلك لمكانة الشيخ العلمية واستمرارية دروسه في ثلاثة عقود بدون انقطاع. ورغم أنّ الشيخ عبد الله مقره في جمهورية جيبوتي– حرسها الله من كل مكروه – إلا أنّه يتجول في مناطق القرن الإفريقي داعياً وناشراً للعلم، وقد قضى الشيخ قرابة 40 سنة في ميدان الدعوة وتدريس الفنون العلمية المختلفة، ولا يزال مستمرا، حفظه الله، وألبسه لباس الصحة والعافية.
والمتمعن بطريقة الشيخ عبد الله علي جيله في التدريس وإلقاء الدروس يرى بأنّ الشيخ له طريقة فريدة ومتميزة، بحيث يبدأ بالمختصرات في كل فنّ يدرسه، ثم يتدرج بالطلبة للوصول إلى المطولات؛ ففي مصطلح الحديث- مثلا- يبدأ بالبيقونية حتى يصل إلى الألفيات المعروفة، مثل ألفية العراقي وألفية السيوطي. وفي الحديث يبدأ بالأربعين النووية، وصولا في النهاية إلى تدريس البخاري ومسلم والترمذي. ومن عادات الشيخ الاعتناء بإعداد الدرس، حيث يمضي جزءا كبيرا من الوقت في الإعداد والبحث، ولا يكتفي بالترجمة الحرفية، بل يقصد توصيل المفاهيم والمعلومات، ويحل الإشكالات على حسب فهم الطلبة.
– حلقة الشيخ محمد إيمان المعروف بـ ” ابن لبون ” الشيخ الذي وصل إلى جيبوتي عام 2004م، وأسس فيها حلقة علمية لتدريس علم الصرف من كتاب ” لامية الأفعال”لابن مالك، و”حديقة التصريف” لعبد الرحمن بن أحمد الزيلعي ، وكذلك كتاب”تصريف العِزّيّ” لمؤلفه العلامة النحوي عز الدين بن أبي المعالي عبد الوهاب الزنجاني المعروف بـ ” العزّي “، ، واستطاع الشيخ ابن لنون قراءة وشرح 500 بيت من متن التصريف، وقد تحلق حوله جمع من طلبة العلم الذين استفادوا من حلقته، وكانت حلقة مباركة، علماً أنّ للشيخ محمد إيمان ” ابن لبون ” حلقات علمية أخرى كان يدرس فيها التفسير والفقه، وكذلك علوم اللغة العربية بما فيها فنّ الصرف. كما كان الشيخ يتنقل ما بين جيبوتي وجكجكا في الصومال الغربي، ويجتهد في نشر العلم حيثما حل، حفظه الله في حله وترحاله.
*دور المساجد
نحن لا نشك في أنّ للمسجد دورا كبيرا في تطوير الحركة العلمية في جيبوتي، لاسيما فيما يتعلق باللغة العربية ودروبها المختلفة؛ حيث أسهمت عموم حلقات المساجد العلمية في الحفاظ على اللغة العربية والثقافة الإسلامية، وبالتالي نرى أنّ المدرسة التقليدية كانت رائدة في الميدان العلمي عبر العصور الماضية ليست في جيبوتي فحسب، وإنّما في عموم منطقة القرن الإفريقي، وبذلك لم تعرف جيبوتي لغة علمية وثقافية غير العربية قبل الاستعمار الفرنسي، وهذا الأمر شجع العلماء والمثقفين في تأليف الكتب والرسائل باللغة العربية، ويبرهن في ذلك هذا الكم الهائل من الإنتاج العلمي الذي حققه هؤلاء مثل:
– قرة العين في الرحلة إلى الحرمين الشريفين، للشيخ القاضي عبد الله بن علي أبي بكر رحمه الله.
– رسالة المسجد في الإسلام للشيخ أمين محمد عمر.
– نزهة المشتاقين ؛ شرح أنسية العاشقين في معجزات سيد المرسلين، للشيخ أحمد بشير محمد عبد الرحمن.
– كشف السّدول عن تاريخ الصومال وممالكهم السبعة، للشيخ أحمد عبد الله ريراش.
– تهذيب موطأ مالك، للشيخ يحيى إيي.
– وهناك من العلماء المؤلفين من يعتبر من المكثرين في مجال التأليف، كالشيخ القاضي موجه درر سمتر، وقد ألف عدة كتب مطبوعة وغير مطبوعة مثل:
– تاريخ الإسلام في جمهورية جيبوتي
– تنظيم القضاء الشرعي في جيبوتي
– تنظيم القضاء عند العيسى
– الشخصيات البارزة في العيسى
– تاريخ فخامة الرئيس حسن جوليد أبتدون
- كتب التراث
– التقليد المتوارث في تولية الأوجاس عند العيسى.
– العيسى: شعب وتاريخ: تأملات في الفكر الفلسفي والسياسي والاجتماعي عند العيسى.
ومن العلماء المكثرين في التأليف أيضاً فضيلة الشيخ عبد الله علي جيله– المشار إليه سابقاً – وقد وضع الشيخ عدداً من الكتب والرسائل العلمية ، ومنهاما يلي:
- التعليقات السّنيّة على قاعدة الشيخ الإسلام ابن تيمية في الألفة.
- كتاب في فضل العلم وآدابه.
- كتاب الحج.
- مقدمة في قواعد الفقهية.
- أوراق في الناسخ والمنسوخ.
وفي هذه الرسالة تتبَّع الشيخ عبد الله علي جيله كتابا لكوكب الساطع لجلال الدين السيوطي المتوفي عام 911هـ.
- منظومة ابن مالك في فعل الناقص الذي يأتي بالوجهين ( و – ي ) الموجود في كتاب مزهر في علوم اللغة للسيوطي (جمع وشرح).
واستطاع هنا الشيخ عبد الله جرد منظومة ابن مالك المذكورة من كتاب مزهر وجمعها على شكل مستقل، ثم قام بشرحها وتبسيطها.
- تخريج الأحاديث الواضح في أصول الفقه لدكتور الأشقر.
- تخريج وتعليق لكتاب آداب الأوبئة والأسقام من بذل الماعون في فضل الطاعون للحافظ بن حجر العسقلاني.
- مقدمة في مبادئ القواعد الفقهية، للشيخ عبد اللّه علي جيله.
- لمحات في آيات وأحاديث الصفات.
*بحوث في المعاملات المالية:
ظهرت في الساحة العلمية كوكبة من الباحثين الذين استخدموا اللغة العربية كافة كتابة وتأليف، والحقيقة أنّه لم يأت ذلك من فراغ، لأنهم باحثون درسوا العلوم العربية في حلقات المساجد، ثم استطاعوا دراسة أحوال اللغة العربية في جيبوتي، وبالطبع لم يصعب عليهم ذلك؛ لأنّهم تربوا على أحضان علماء نذروا أنفسهم لنشر العلم تطوعاً عبر الحلقات العلمية على غرار العلماء في العالم الإسلامي، وبذلك يعتبر الباحثون امتدادا للمدرسة التقليدية التاريخية، والتي من روادها في منطقة القرن الإفريقي:
– الأستاذ إلياس إدريس أحمد، عمل كمدرس بمدارس التعليم العربية في جيبوتي، وهو عضو في هيئة البحوث والدراسات التابعة للمجلس الأعلى الإسلامي. وقد أنجز الأستاذ إلياس كتاباً سماه: ” مراسي الأشواق على عتبات الوصال”، والكتاب عبارة عن ديوان لقصائد دينية للسادة القادرية الزيلعية في القرن الإفريقي. ويتضمن أيضا فيه أدعية وابتهالات، مدائح نبوية، مناقب، وعموم الكتاب يوثق جانب مهم من التراث الثقافي في القرن الإفريقي، وهو التراث الديني وخاصة الإنشاد الديني للسادة القادرية في القرن الإفريقي.وللمؤلف مؤلفات أخرى مثل:
– المسجد بين التربية والسياسية.
– أضواء على الثقافة الإسلامية في جيبوتي – مؤسساتها وروادها.
– آدم عثمان درار، يعمل كباحث في مركز الدراسات والأبحاث في جيبوتي قسم معهد العلوم الاجتماعية والإنسانية، ومسؤول عن ملف العلاقات مع المراكز العربية. والأستاذ عثمان درار أنجز بحثاً نفيساً أطلق عليه: ” الاستعمار الفرنسي في جيبوتي 1862-1977م “.
– الأستاذ آدم محمود علي كتب رسالة علمية ” فاعلية الإدارة المدرسية في التعليم الأهلي العربي في جيبوتي (دراسة ميدانية بجيبوتي العاصمة) “، وقد شملت دراسته تاريخ التعليم في جيبوتي، والمدارس الأهلية العربية، ووضع اللغة العربية، والتعليم الأهلي العربي ومنهاجه والطرق والأساليب المستخدمة، وفاعلية اللغة العربية في المدارس الأهلية العربية، وانتهج الباحث المنهج الوصفي التحليلي، واستعان في جمع البيانات بالاستبانة والمقابلة، وهذه الدراسة تهدف للتعرف على المشكلات التربوية التي تواجه التعليم الأهلي العربي في المنطقة، والمتمثلة في مشكلات الإدارة المركزية، والمناهج، وإعداد المعلمين، والمباني، والتمويل، ونظرة المجتمع الجيبوتي للغة العربية. وخلصت إلى أن المدارس العربية لعبت دورا كبيرا في تمسك الشباب الجيبوتيين بدينهم، وازدياد الإقبال على تعليم اللغة العربية.
وهناك مشاكل تواجه عملية تطوير المدارس؛ ومنها وضع وتصميم المنهج، والإعداد المهني للمعلمين، وأن أساليب القياس والتقويم غير واضحة لكثير من أصحاب المدارس، ومقررات اللغة العربية مستوردة من الدول العربية، وأن المعلمين يجدون صعوبات عند استخدامهم للوسائل التعليمية الحديثة، وأوصت الدراسة بوضع منهج دراسي وطني يتلاءم مع ظروف وحاجيات التلاميذ، وإنشاء معهد لإعداد وتدريب المعلمين، وتفعيل دور مجلس أولياء الأمور، وتوفير الوسائل التعليمية للمدارس، وضرورة إنشاء وحدة إشراف تربوي. الجدير بالذكر أن أصل هذه الدراسة كانت دارسة علمية في كلية التربية والدراسات الإنسانية بجامعة إفريقيا العالمية – الخرطوم – السودان.
– معالي الأستاذ حامد عبد سلطان تناول أحوال اللغة العربية في المدارس من خلال بحثه ” منهج تعليم اللغة العربية للمرحلة الإعدادية في المدارس الحكومية في جيبوتي : دراسة تحليلية تقويمية ” ، ويمتاز الكاتب هنا بأنّه وزير الأوقاف والشئون الإسلامية لجمهورية الجيبوتيالسابق، وباحث قديم ويهتم بهموم الأمة.
– الأستاذ حسين جوليد له بحثاً حول اللغة العربية “المدارس الأهلية الجيبوتية ودورها في اللغة العربية “.
– الأستاذ حسين سمتر كتب رسالة أطلق عليها ” منهج مقترح للغة العربية للمرحلة الابتدائية في المدراس الحكومية الجيبوتية “.
– الأستاذ روبلة حسين أنجر بدوره بحثاً تناول فيه معلمي اللغة العربية في البلاد، وهو بحثه ” 2002 برنامج مقترح لإعداد معلمي اللغة العربية للمرحلة الإعدادية الحكومية بجمهورية جيبوتي” .
– الأستاذ طاهر جامع له بحث “تحليل الأخطاء النطقية لطلاب المدارس الأهلية بجيبوتي “.
– الأستاذ أحمد ميجية، وضع بحثاً عنوانه : ” تعليم اللغة العربية في المدراس الحكومية الجيبوتية المرحلة الإعدادية “.
– الأستاذ عبدالرحمن علي وكتب بحثاً ” حول تعليم اللغة العربية في جيبوتي ” المشكلات التي تواجه تعليم اللغة العربية في المدراس الثانوية الحكومية في جيبوتي ( دراسة وصفية تحليلية ) “.
– الأستاذ عبدالله براله تناول أثر الإعلام في اللغة العربية في بحثه ” أثر الإعلام في نشر اللغة العربية في جيبوتي 2001-2003 “
– الأستاذ عبد الوارث علي أدم ألف رسالة سماها: ” وهج القناديل ” ، والكاتب أديب وشاعر ماهر، وكتابه المذكور عبارة عن ديوان شعر وضعه الشاعر، والقارئ للكتاب يشعر لأول الوهلة بأن الكاتب يريد أن يشارك معه إحساسه وشعوره في قضايا عدة تضمنت ديوانه وأبرزت في قريحته الشعرية.
– والأستاذ محمد طاهر روبلة أنجز بحثاً علمياً عميقاً حول الحركات الإسلامية بعنوان ” التعددية في فكر الحركات الإسلامية المعاصرة وعلاقتها بالمشروع الإسلامي “.
– الأستاذ نور عسكر ألف رسالة أطلق عليها ” دوافع تعليم اللغة العربية في المجتمع الجيبوتي ” طلاب الجامعات السودانية “.
الجدير بالذكر أنّه لم يكن هدفنا أن نتتبع الإنتاج العلمي والثقافي لجمهورية جيبوتي – وهو أمر له أهميته العلمية – ولكننا نشير إلى بعض جهود هؤلاء لاسيما فيما يتعلق باللغة العربية..
وما قدمناه هنا عن مساهمات العلماء في علم الصرف عبر الحلقات العلمية ليس إلا مجرد ضرب من الأمثلة، ونرجو أن تظهر دراسات عميقةأخرى تبرز مستوى الحركة العلمية في قطر جيبوتي وحلقاته العلمية.