وعند هذه النقطة من الثراء، اكتسبت بلدية جمامه خبرة جيدة في أساليب جمع الضرائب والرسوم، وأصبحت تطمع بفائض كبير في ميزانيتها السنوية؛ فاغتنمت السيدة مارجريتا هذه الفرصة، وأدخلت في قائمة الخدمات المجانية التي تقدمها البلدية لسكان المدينة نظام تنظيف بيوت العائلات من الحشرات الضارة والقوارض برشها مرة كل ثلاثة أشهر بالمواد المطهرة مثل دي دي تي DDT، وكنا – كأطفال- نفرح بقدوم هذا اليوم الذي يحمل التغيير في نمط حياتنا، ونسرع بإلقاء مرتبات أسرتنا، بل وماعون بيوتنا تحت أشعة الشمس الحارقة، ولا نعيدها إلى مكانها إلا بعد أن نشعر ببرودة الليل.
والمفارقة هنا هي؛ أن هذا المستعمر الغاشم لم يخلق لنا مدينة شبيهة بالمدن الأوروبية الجميلة، ولم يخلق لنا فرص عمل خلاقة لم يحلم بها من قبل أجدادنا، ولم يعلمنا أن الإنتاج الذي نغزو به العالم ناتج عن استخدام عقولنا وسواعدنا، وليس الجري وراء البهيمة والمطر فحسب، بل أصبح ينظف بيوتنا من البقِّ الذي يمتص دمائنا ودماء أطفالنا إلى جانب البعوض والحشرات والقوارض الضارة.
وبالتزامن مع بداية تطبيق فكرة تنظيف البلدية لبيوت العائلات، أضافت السيدة مرجريتا إلى مهام مستوصف المدينة مهمة تطعيم الأطفال من الأمراض السارية (المعدية) وتوعية الاُمهات بالشؤون الصحية، وكانت والدتي من -حسن الحظ- من ضمن الأطفال الذين تلقوا في ثلاثينات القرن الماضي كل الجرعات المطلوبة لحماية الطفل من الأمراض السارية، وكانت تحمل على كتفها الأيمن ندبة تدل على تلقيها التطعيم من هذه الأمراض.
وكطفل أصبحت هذه الندبة محبَّبة إلى نفسي، وكنتُ أتطلع إلى يوم إتمامي لجرعات التطعيم كي أحمل على كتفي الأيمن ندبة شبيهة بندبة كتف اُمي؛ ولكن لم يتحقق لي شرف الحصول على هذه الجائزة الثمينة رغم تناولي لكل الجرعات المطلوبة في مواعيدها.
ومع ازدياد توفر فرص الحصول على العمل في ناحية جمامه، وازدياد تدفق المهاجرين الراغبين في تغيير أحوال معيشهم، انضم إلى مكونات مجتمع مدينة جمامه “جالية يمنية صغيرة” تعود في اُصولها إلى جنود مرتزقة استأجرتهم إيطاليا أول الأمر من سواحل اليمن لمساعدتها في احتلال أريتريا ثم لاحقًا في السيطرة على التراب الصومالي.
اتجه جُلُّ أفراد هذه الجالية بعد انتهاء حرب المقاومة واستتاب الأمن وتسريحهم من الجيش إلى التجارة، وبدؤوا أعمالهم أول الأمر بافتتاح محلات تجارية (دكاكين) صغيرة في مدن ساحل بنادر الكبير، وانتهى بهم الأمر لاحقًا إلى الهجرة ثم الاستقرار في نواح مختلفة في جنوب الوطن الصومالي من ضمنها مدينة جمامه والقرى التابعة لها.
من جانب آخر، دفعت حسن الحالة الاقتصادية والاجتماعية لمدينتنا وانتشار سمعتها كمدينة واعدة، بعثة تبشيرية أمريكية باسم مينونايت Mennonite mission إلى طرق أبواب مدينتنا على أمل إضافتها ثم دمجها في مكونات مجتمع ناحية جمامه المتعدد الأعراق والثقافات.
أدرك الحاكم الإيطالي، وقادة المجتمع المحلي أهمية احتضان هذه البعثة (قبل أن يخطفها الآخرون) نظرًا لأهمتها في تغطية جزء -ولو يسير- من الحاجة الملحة في قطاع التعليم والصحة،إلى جوار قبول البعثة طلب الحاكم الإيطالي بالإسراع في تدريب كوادر من الممرضين المحليين القادرين على توفير بعض الخدمات الصحية لأهلهم في القرى المجاورة في المستقبل القريب.
بعد هذه الاجتماعات بارك قادة المجتمع المحلي قرار الحاكم الإيطالي بمنح هذه البعثة قطعة أرض واسعة في المدخل الشمالي للمدينة، وكان هذا القرار حسب وجهة نظر الكثيرين صائبًا ومفيدًا لناحية جمامه والمجتمع الصومالي إلى درجات بعيدة.
في الواقع كان استقرار هذه البعثة في تلك البقة من المدينة نقلةنوعية لمدينتي الصغيرة؛ حيث دشنوا بداية انضمامهم لمجتمع هذه المدينة بتحويل قطعة الأرض البور التي أُهديت إليهم إلى جنة من أعشاب السافانا الطويلة بمجرد إحاطتها بسور من نبات الصبار الشوكي.
بَنَتْ هذه البعثة في مقرها الجديد بيوتا جميلة لعائلاتها، إلى جوار فصول دراسية رائعة ومجهزة بوسائل تعليمية تناسب المرحلة الابتدائية والوسطى، وفصول خاصة لتدريس اللغة الإنجليزية لكبار السن في المساء، إلى جوار سكن داخلي للتلاميذ القادمين من مناطق خارج نطاق مدينة جمامه.
وبالقرب من هذه المدرسة الجميلة، جهزت هذه البعثة ملاعب لكرة السلة وكرة اليد التي لم تكن معروفة يومًا في بلادنا، إلى جانب ملعبين لكرة القدم، ومرافق صحية توفر للفرق المتنافسة والمتمرنين مياه صالحة لاستخدام البشري، ودورات مياه جيدة التهوئة.
أما النقطة الجديرة بالذكر هنا فهي أن بعض لاعبي كرة السلة وكرة اليد في ملاعب هذه البعثة أصبحوا فيما بعد نجوما وأعلاما وخبراء ومدربي كرة السلة وكرة اليد على مستوى الجمهورية.
وأذكر من هؤلاء المدربين المشهورين محمد عثمان درباويني Darbaweyne في مجال كرة اليد، وعبدي طيرَو Cabdi Dheerow في مجال كرة السلة.
أما النقلة النوعية الأخرى التي قدمتها هذه البعثة لمجتمع مدينة جمامه والمجتمع الصومالي الكبير بأسره فهي افتتاح مستشفيى بسعة نحو 25 سريرًا، ومزود بمختبر صحي حديث، وصيدلة توفر بسعر رمزي أدوية ذات جودة عالية يصعب الحصول عليها خارج هذا المستشفى.
وإلى جوار خدماته المجانية لنحو 100 مراجع يوميًا، قدَّم هذا المستشفى خدمات فصلية لمن يعاني من أمراض تتطلب التدخل الجراحي.
وكان يصل إلى هذا المستشفى فرق طبية متطوعة كل فصل من فصول السنة الأربعة، من الإخصائيين في المجالات الطبية المختلفة؛ مثل جراحة العيون، والعظام، والباطنة،وغيرها.
وكانت خطة العمل بالنسبة لجراحي العيون على سبيل المثال إجراء حوالي عشرين عملية جراحية في كل فصل أي نحو ثمانين عملية في العام.
وعند انتهاء موعد فريق جراحة العيون في الأيام العشرة الأولى من فصل ما، يحين موعد فريق جراحة العظام لمدة عشرة أيام أخرى، ثم فريق جراحة البطن، وهكذا على دوام السنة.
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الشبكة، وإنما تعبر عن رأي أصحابها!