كان الإقبال على خدمات هذا المستشفى هائلًا، وكانت قوائم انتظار إجراء العلميات طويلة بعد أن أصبح خبر جودة ومجانية خدمات هذا المستشفى على كل لسان في أرجاء الوطن الصومالي الكبير.
وبقي أن أذكر بعد كل هذا، أن هذه البعثة أوفت بوعدها لحاكم المدينة الإيطالي والقادة المحليين؛ ففتحت في داخل هذا المستشفى معهدا للتمريض تَخَرَجَت منه كوادر مدرَّبة ساعدت كثيرًا في رفع المستوى الوعي الصحي للمجتمع الصومالي، وتمكنت لا حقاً من الحصول على وظائف مجزية في بلاد بترولية مثل السعودية عندما بدأت الهجرة إلى هناك عقب هزيمة 77-78 التي أتت على الأخضر واليابس، وأدت في نهاية الأمر إلى سقوط الدولة المركزية في باكورة 1991.
من جانب آخر، ساعدت كثرة مراجعي المستشفى في تحريك اقتصاد المدينة عن طريق خلق وظائف جديدة ساعدت بطريقة أو بأخرى على جذب مهاجرين جدد، وأصبحت الفنادق تعمل بكل طاقتها لفترات طويلة بسبب ارتفاع نسبة المراجعين للمستشفى من خارج ناحية جمامه.
واقتناصا من هذه الفرصة، سارع بعض التجار الأذكياء في بعض المحلات إلى تأجير الخيم، وأدوات الطبخ والماعون للمراجعين، وبالتالي أصحبت من الطبيعي رؤية خيم منصوبة في أطراف المدينة طول العام، كما أصبح المستشفى في حد ذاته معلمًا آخر من معالم المدينة.
وتتويجا لقدرة مدينتي الصغيرة على جذب الناس من كل فج عميق، طَرَقَ باب مدينتا الصغيرة في أواسط الخمسينات مسؤول ” البعثة التعليمية العربية في الصومال” (كما كان اسمها الرسمي، أو ببساطة مسؤول “المدارس المصرية” كما كنا نسميها نحن أهل الصومال) في أواسط الخمسينات بهدف الحصول على أرض لبناء مدرسة ابتدائية وإعدادية تابعة لبعثته.
تم الترحيب بمسؤول هذه البعثة أيما ترحيب، وفتحت له أبواب بيت الضيافة الخاص بكبار ضيوف المدنية وأهديت له على الفور، قطعة أرض قُبَالَةَ موقع البعثة التبشيرية الأمريكية، ثم تعاون سكان المدنية في بناء فصول ومكاتب هذه المدرسة التي نال كاتب هذه الأسطر شرف التتلمذ على يد مدرسيها الأجلاء.
وبطيعة الحال، كان الفرق الحضاري بين مبانيا لبعثة التبشيرية الأمريكية الغارقة في بحر من النور مع حلول الليل الإفريقي الكاحل، ومباني البعثة التعلمية المصرية التي بناها سكان المدينة بسواعدهم لا تخطئه العين، إلا أن المدرسين المصريين وعائلاتهم لم يسكنوا في موقع المدرسة بل كانوا يستأجرون مساكن متفرقة في أحياء المدينة، وكانت البعثة التعليمية المصرية تطبق سياسة نقل المدرسين إلى نواحٍ أخرى كل عام أو عامين ، وبذلك لم تضرب العائلات المصرية جذورها في تربة الناحية كما فعلت العائلات الإيطالية والأمريكية التي وصلت بهم حالة الاستقرار في ناحية جمامه إلى التزاوج مع السكان المحليين وتكوين أسر مختلطة الأعراق.
أرسلت الجالية اليمنية المقيمة في المدينة كل أبنائها إلى هذه المدرسة دون أدنى تردد بسبب وحدة اللغة، أما السكان المحليون فوزعوا أولادهم بين المدرسة الإيطالية والمدرسة الأمريكية المبشرتَين بمستقبل واعد، ويُستثني من ذلك قلة من الفقهاء والمتدينين من أمثال والدي الشيخ عثمان الذي أرسلني إلى المدرسة المصرية.
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الشبكة، وإنما تعبر عن رأي أصحابها!