توطئة:
ليست اللغة العربية غريبة ولا حديثة عهد في القارة الإفريقية، وهذه معلومة تاريخية قديمة، وتعتير العربية اللغة الأولى في القارة السمراء من حيث عدد الناطقين بها كلغة الأم، رغم أن منبعها وموطنها الأصلي في الجزيرة العربية، إلَا أن هذه القضية لا ينتبه إليها الكثيرون، بل ويلحّ البعض على أنها وافدة ودخيلة في المنطقة، غير أن الحقيقة العلمية في تاريخ اللغات المعاصرة في المنطقة تثبت وتشير إلى أنه ليس هناك لغة أخرى محلية كانت أم عالمية تجاري العربية في القارة الإفريقية، كلغة شعبية في القاعدة العريضة لدى الشعوب الإفريقية، بينما تأتي اللغات الإفريقية مثل لغة الهوسا في غرب ووسط إفريقيا، ولغة السواحلية في شرق القارة ووسطها وغيرها من اللغات تالية للعربية من حيث الترتيب والتسلسل الرقمي في خريطة انتشار اللغات في المنطقة.
وتعتبر منطقة القطب الشمالي للقارة السمراء منطقة المغرب العربي، المتمثلة بدول الإفريقية العربية مثل (مصر، وليبيا، وتونس، والجرائر ، والمغرب) ومنطقة الشرق الإفريقي حيث السودان المجاورة لدول شمال إفريقيا، وجمهورية تشاد في وسط القارة، وموريتانيا الواقعة في منطقة غرب القارة المعقل الرئيسى والموطن الأصلي للعربية ولهجاتها.
رغم أن زحف وانتشار اللغة العربية وصل إلى أقصى حدود القارة بل وتجاوزها، فأصبحت العربية حيناً من الدهر لغة الخطابة والمكاتبات لدى شعوب القارة رسمياً، حيث استخدم الحرف العربي لأغلب اللغات الإفريقية كتابة وتدويناً، طالما لم تقترح لها رموز أو أصوات حينئذ، وأن أثر الثقافة العربية ما زال موجوداً في ربوع القارة رغم الظروف.
وهناك دول إفريقية عربية أخرى في القارة السمراء منها دولة الصومال، وأن المتتبع لتاريخ اللغة العربية في الصومال يجد أنها عميقة الجذور في تاريخ الشعب الصومال قديما وحديثاً، وأن التراث الإسلامي والعربي قد تزامنا في أرض الصومال قدم التاريخ. وأن جلّ مصادر ومراجع التاريخ تشير إلى أن العربية وصلت إلى منطقة الصومال قبل الإسلام، وأن العلاقة الوطيدة بين الصومال والجزيرة العربية لهي أوضح دليل على أن اللغة العربية كانت موجودة في الصومال قبل الإسلام بقرون.
ومن جانب الوازع الديني تعتبر اللغة العربية بالنسبة للمسلمين لغةالعقيدة، ولغةالفكر والحضارة والتاريخ، ولغةالرسالة التي يحملونها في الحياة، وفوق كل ذلك هي لغة كتابهم المقدس الذي يتلونه صباح مساء،ولغة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، فهي بالنسبة إليهم ليست لغة قبيلة معينةأوشعب معين، وإنما هي لغة الأمة والإسلام مهما اختلفت لغاتهم وألوانهم وأوطانهم وأزمانهم. وعلى هذا لم تعتمدالدعوة إلى الإسلام في إفريقيا على اللغات المحلية،بل كانت اللغة العربية دائماً،كونها اللغة التي أنزل الله بها القرآن، وهي الوسيلة الوحيدة لتلاوة القرآن وتفسيره وفهمه، وللسنة المطهرة، وهي لغة العلماء في مجالسهم الدينية،وحلقات العلم والذكر،ولغة الأوراد والصلوات وغيرها من الشعائر والطقوسات الدينية لدى المسلمين، وأن اللغات المحلية تأتي في طور التوضيح والشرح كوسيط لترجمة الألفاظ ونقل المعاني من وإلى المتلقي المستهدف.
والجدير بالذكر أيضاً أن الشعب الصومالي مسلم مئة بالمائة، وقد استخدم اللغةالعربية في الماضي وسيلة للمراسلة وللمعاملات التجارية، وتوثيق العقود وغير ذلك من المعاملات الدينية والدنيوية، وأنها كانت وما زالت وسيلة لنشرالعلوم الدينية بين أفراد المجتمع الصومالي، بل وقد اعتبرت العربية لغة الشعب الصومالي قديماً وحديثاً في دساتير البلاد. وهذاالأثر مازال محفوظاً وباقياً في المدونات الوطنية للبلاد.
لهذا التاريخ الطويل للغة العربية في الصومال، ولهذه الفرصةالسانحة التي أتيحت لها في ربوع البلاد، حاولت أن اختار هذا العنوان “أضواء على تاريخ اللغة العربية في الصومال” الذي هو سلسلة من المقالات تسلط الأضواء على واقع اللغة العربية وأوضاعها في هذا البلد العربي الإفريقي الإسلامي، تأريخا وتوثيقاً لمراحلها المختلفة، وقد تتطرق هذه السلسلة لعلاقة العالم العربي بالصومال قديما وحديثاً مدخلاً وتوطئة للموضوع، وكما تتطرق بصورة مبسطة دخول اللغةالعربية وانتشارها في ربوع الصومال، وطبيعة واقع وأوضاع المراحل التي مرت بها العربية في هذه البلاد، وتهدف السلسلة أيضاً إلى الوقوف على العوامل المساعدة لانتشار اللغة العربية في الصومال، وتدلف كذلك إلى إبزار أهم مؤسسات اللغة العربية في البلاد، وكشف الغطاء عن أخبار روّاد هذه المؤسسات ودورهم في خدمة لغة الضاد، وأخيراً عن أهم التحديات التي واجهت وتواجه اللغة العربية في الصومال عبر تاريخها الطويل، وفي ذيل هذه السلسلة يحاول الكاتب تقديم بعض الحلول للعقبات والصعوبات الراهنة التي تواجه اللغة العربية، وسوف تتنبأ هذه الدراسة أيضاً مستقبل اللغة العربية في الصومال بناء على وضعها الراهن، ووفقا للمتغيرات السياسية والاجتماعية والتعليمية في المنطقة.
ولكن قبل أن نخوض في أغوار وأمواج المعلومات حول المقالة، دعنا نضع أمام القارئ العربي بطاقة تعارف لامحة عن ماهية بلاد الصومال أرضاً وشعباً حتى يواكب المسلسل لاحقاً.
أما أرضاً فتقع جمهورية الصومال في شرقي إفريقيا فيماي عرف بالقرن الإفريقي، وهو أقصى امتداد لإفريقيا في الجنوب الشرقي، تمتد أراضي الصومال بين خطى عرض 12 شمالاً و 139 جنوباً وبين خطى طول 14 و 15 شرقاً.([1])
وتطل جمهورية الصومال على المحيط الهندي وتقع وسط الشاطئ، وتمتد سواحلها على المحيط بأكثر من 3600 كم من باب المندب شمالاً وحتى رأس كامبوني جنوباً.
تحد الصومال شمالاً جمهورية جيبوتي وجنوباً دولة كينيا وشرقاً المحيط الهندي وغرباً دولة أثيوبيا (الحبشة)، وتبلغ مساحة الصوما لنحو (636,541 كم2) ([2]). على أن الصوماليين ينتشرون في مساحة لاتقل عن مليون كم2، فيما يطلق عليه الصوماليون الصومال الكبير، وتقع بعض أجزاء الصومال الكبير في شرق أثيوبيا وشمال شرق كينيا.
أهم مدن الصومال المدينة التاريخية العريقة مدينة مقديشو العاصمة، فيها المطار والميناء الدوليين، ومدينة كسمايو حاضرة إقليم جوبا السفلى، وهرجيسا عاصمة الإقليم الشمالي، ومركة عاصمة إقليم شبيلي السفلى وبراوة، وبيدوا عاصمة إقليم باي، وبوصاصو عاصمة إقليم الشرق، ومدينة بلدوين حاضرة إقليم هيران، وجوهر وجالكعيو. وللصومال موقع إستراتيجيي يشرف على باب المندب مدخل البحر الأحمر، وهو أقرب نقطة التقاء في المحيط الهندي بين إفريقيا وآسيا، وقد اصطلح علماء الجغرافيا على أن يسموا ذلك الجزء البارز من أرض الصومال القرن الإفريقي([3]).
أطلقت منطقة الصومال الحالية على عدة أسماء سابقاً منها: بلاد بونت والذي أطلق عليها الفراعنة قديماً، وحفظ التاريخ المصري القديم سيرة أهلها وأقاليمها ومنتجاتها، وأطلق عليها الفينيقيون باسم إقليم البخور، وكما أطلق عليها اليونانيون والرومانيون باسم (برباروي) في العصور القديمة([4] ) وإن كان هذا الاسم تغيّر إلى البربر من قبل مؤرخي العرب في العصور الوسطي، ثم تحول الاسم إلى بربر نسبة إلى مدينة بربرة الواقعة على الساحل الصومالي الشمالي مقابل خليج عدن.([5])،وأيضاً ظلت الصومال معروفة بعدة قرون باسم القرن الإفريقي نسبة إلى شكلها على خريطة العالم([6]).
وأماالصومال شعباً فيقدر سكان الصومال بحوالى (15 إلى 20 مليون) حسب تقارير غير معتمد عليها.([7]) ينتمي الشعب الصومال للجنس الحامي، وبالتحديد للعنصر الكوشي. والكوشيون هم إحدى الموجات الحامية، ويعرف أيضاً بالحاميين الجنوبيين تمييزاً لهم عن الحاميين الشماليين، وكان الكوشيون يسكنون منطقة شرقي إفريقيا من حدود مصر شمالاً حتى القرن الإفريقي جنوبا([8] ).
يعتبر الصوماليون من السكان الأساسيين أو الأصليين لمنطقة القرن الإفريقي، وكلهم بلا استثناء مسلمون، ويحمل الشعب الصومالي الملامح الحامية والعربية معاً. وكما يشكل الصوماليون وحدة عرقية وثقافية وقومية واحدة على امتداد تشكيلاتهم في منطقةالقرن الإفريقي.
هناك جدل كبير حول أصل الصوماليين وسلالتهم إلّا أن مجال هذه الدراسة لا يسع لخوض هذا الجدل التاريخي، والذي أيضاً ليس موضوع دراستنا، ورغم أنني أرى أن مايوجد الآن في الصومال عنصر خليط يحمل ملامح ممزوجة بين العربية والإفريقية، في حين أن بعض القبائل مازالت تحتفظ بملامحها العربية أو الإفريقية، ولها تاريخ يمكن الرجوع إليه بسهولة، ولكنا لمشكلة العويسة التي تحتاج إلى حسم وجزم وإلى إثبات هي أصل ذلك العنصر الممزوج، هل أصله كان إفريقيا تعرّب أم كان عربياً تأفرق، بيد أن هذايصعب إثباته في الوقت الراهن حيث لايوجد تاريخ متفق على صحته حول هذا الجدل لدى المؤرخين والكتّاب، وإنما الكل يدّعى وصلاً بليلى، وليلى لا تقرّ لهم بذاك، أو خال عن التزييف والتعصب أو العواطف والمصالحالذاتية. وإلى حين حسم هذا الجدل نرى أن الشعب الصومالي شعب مسلم عربي وإفريقي بهذه التركيبة التي بها الآن.
كان هذا عرضا سريعا وموجزاً عن الصومال أرضاً وشعباً، وندلف الآن إلى الحديث عن دخول العربية وانتشارها في ربوع الصومال، ولكن دعنا نشير أولاً وبصورة مبسطة إلى العلاقات التي تربط العالم العربي وشعوبه بأرض الصومال.
تشير الدراسات إلى أن أهم الصلات والعلاقات التي تربط العالم العربي بالشعب الصومال هي……. نواصل في الحلقة القادمة.
الهوامش:
[1]-مؤسسة أعمال الموسوعة للنشر، الموسوعة العربية العالمية، ط2، الرياض 1419هـ ــ 1999م جـ 15 ص222.
[2]– حمدي الطاهري، قصة الصومال، ط1، المطبعة العربية الحديثة، القاهرة، 1977م، ص17.
[3]– أحمد شلبي، موسوعة التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية، ط4، مكتبة النهضة العربية 1983م، ص606.
[4]– عبدالرزاق حسينؤحسن،المسح اللغوي في الصومال،ط(بدون) الشركة الحديثة للطباعة،الدوحة 1411هـــ 1991م،ص11.
[5]– عبد المنعم عبد الحليم، الجمهورية الصومالية، “الإقليم الجنوبي وصوماليا” مكتية الشروق، القاهرة، 1960م، ص 168.
[6]– حمديالطاهري، مرجع سابق،ص17.
[7]– ليس هناك إحصائيات رسمية عن عدد السكان في الصومال يمكن الاعتماد عليها منذ 1992حتى اللحظة. وما تذكر حالياً مجرد إحصائات تقربية.
[8]– محمد عبد المنعم،الصومال وطناً وشعباً، ط(بدون )،ناشر (بدون)،ص172.