بعد عقدين من التغييرات الدرامية في أساليب إنتاج الثروة، ومن ثم تطور بنية اقتصاد ناحية جمامه،من اقتصاد بدائي قائم على الرعي وزراعة بعلية (زراعة مطرية) بدائيةإلى اقتصاد قائم على ميكنة الزراعة، والصناعة القائمة على المنتوج الزراعي، ظهرإلى الوجود – ربما لأول مرة في تاريخ الصومال- طبقة من الفنيين، والحرفين والعمال المهرة Skilled Workers والعمال الغير مهرة Unskilled Workers إلى جوار طبقة العمال الزراعيين، وساعد مكتب العمل هذه الطبقات في تنظيم نفسها في نقابات خاصة تسعى على الدوام للدفاع عن حقوقهم وتحسين أجورهم و ظروف عملهم.
كما أدى هذا التغيير الثوري في وسائل إنتاج الثروة في ناحية جمامه،إلى تغيير ثوري آخر في حجم ونوع مكونات المجتمع؛حيث برز إلى الواجهة المكون الفلاحي الضخم والمهوس بالمحاصيل النقدية والمستقر في ضفتي النهر، تليه طبقة عاملة مستقرة في المدينة، وتسترزق من بيع مهاراتها أو قوة عضلاتها لمصانع حلج القطن ومراكز صيانة المعدات الزراعية ووسائل النقل وعمليات تصدير المنتج الزراعي والمرافق التي تديرها الحكومة المحلية والأسواق المستقرة في المدينة، إلى جوار طبقة غير مستهان بها من المشتغلين بالتجارة بينما تقلص بدرجة ملحوظة المكون الرعوي المتنقل الذي كان سيد الموقف في مدينة جمامه قبل وصول المستعمر للوطن الصومالي.
وعندما تعيد النظر إلى تلك القرية العشوائية التي وصلت إليها السيدة مرجريتا في حدود عام 1924، ثم تقارن حالها في تلك الأيام، بحالها في العقد الخامس من القرن الماضي، تجد أن حال هذه القرية التي سميت فيما بعد مدينة جمامه أصبح بدرجة أو بأخرى غير مختلف كثيرًا عن حال مثيلاتها من المدن الأوروبية الصغيرة مع مراعاة الفارق في الزمن المستغرق في تطوير مدينة جمامه من قرية كانت تنتمي إلى القرون الوسطي في عام 1924 إلى مدينة حديثة وشبيهةإلى درجة ما بالمدن الأوروبية الصغيرة في عام 1950، والزمن المستغرق في تنمية المدن الأوروبية الصغيرة التي تماثلها.
فهذه القرية الاستوائية السابقة، أو مدينة مرجريتا لاحقًا، ثم مدينة جمامه حاليًا، والتي نجحت عن جدارة في اللحاق بآخر عربة في قطار الحداثة أصبحت تتمتع في أواسط القرن الماضي بكل ما تمتعت به المدن الأوروبية الصغيرة المشابه لها من حديث كثافة السكان. ومن جانب فرص العمل كان هناك مكتب يلبى طلبات كل أصحاب العمل والعمال، إلى جانب توفر دخل فردي جيد، وخدمات مصرفية، وأمن مستتب، وندرة الجرائم، وندرة التشرد والتسول،أضف إلى توفر خدمات حكومية فائقة الجودة، وبيوت عائلات مزودة بالماء والكهرباء، وأطفال يدرسون في مدارس عصرية، ومستشفى، ومستوصف حديث، وملاعب وفرق تتنافس على كرة القدم، وكرة السلة، وكرة اليد،دار للسينما تعرض كل ليلة فيلماجديدا، ومقاهي، ومطاعم، وفنادق، ومصانع، وسائل نقل ومواصلات، ومحطات بنزين، ورواج تجاري، وأسواق في الهواء الطلق، ومحلات تجارية متنوعة، وقرى فلاحية تمد المدينة بالفواكه والخضروات الطازجة. وهل تتمتع المدن الأوروبية الصغيرة بأكثر من هذا؟
ليس هذا فحسب، بل كان السجناء- الذين يقضون فترات حكم أقل من خمس سنوات -يتمتعون بمعاملة إنسانية تحفظ لهم كرامتهم كبشر، وتعيد دمجهم في المجتمع كمواطنين صالحين، منتجين وقادرين على العيش في سلام مع الآخرين.
فمؤسسة السجن في هذه المدينة – تحت الحكم الإيطالي- كانت تملك مزرعة وبستان على ضفة النهر،إلى جوار محل تجارى، مطعم، مقهى، ومركز للتدرب على فن النجارة.
وكان المحبوسون في سجن المدينة يذهبون كل صباح لتحقيق ذواتهم بالعمل في أحد هذه الأماكن، ولا يعودون إلى السجن قبل الخامسة مساءً.
ليس هذا فحسب، بل كان لهم أيضًا حق زيارة عائلاتهم، والعناية بأطفالهم أثناء النهار ثم العودةإلى السجن قبل غروب الشمس.
ويتلخص لغز ظاهرة التحضر السريعة والفريدة في مدينة جمامه إلى أن المواطنين المحليين في ناحية جمامه (وكل نواحي إقليم ما بين النهرين) لم يلعنوا يوم وصول المستعمر إلى بلادهم، ولم يدفنوا رؤوسهم في الرمال عقب انبهارهم بكفاءة المستعمر في جميع أصعدة الحياة، بل أدركوا باستخدام العقل “الفجوةالثقافية” الهائلة التي بينهم كرعاة أميين وبين هذا الضيف الفلاح الصانع الجديد، واعترفوا بكفاءته، وقبلوه كبشر مثلهم، بل منحوه شرعية إدارة شأن بلادهم لا لسواد عيونه، بل لجدارته للاطلاع بهذه المسؤولية، ثم تعلموا لغته وتعلم لغتهم، وتزوجوا بناته وتزوج بناتهم، وأحلوا السلام بينهم، وعاشوا سويًا في مجتمع متعدد الأعراق والثقافات تديره سلطة مستنيره وقادرة على قيادة المجتمع نحو غد أفضل حالًا.
هكذا نقل المستعمر مدينة جمامه – في فترة وجيزة – من قرية عشوائية مجهولة تعيش في ظلمات العصور الوسطى، وتعتمد في حياتها على ما تنتجه قطعان ماشيتها، إلى مدينة عصرية، تنبذ حياة الرعي والتنقل، وتعتمد في حياتها ليس على ما تنتجه قطعان ماشيتها، بل على ما ينتجه عقلها، وقوة عضلات سواعدها، ثم تصدر فائض إنتاجها الزراعي والصناعي الهائل إلى أوروبا؛ وبالتالي تتمتع إلى درجة ما بحياة رفاهية شبيهة بتلك التي يتمتع بها سكان مثيلاتها من المدن الأوروبية عن جدارة واستحقاق.
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الشبكة، وإنما تعبر عن رأي أصحابها!