وأول من ولى الأدبار، وشرع في الهروب من ناحية جمامه قبل نهاية العام الثاني من استقلال البلاد الكئيب هي شركات حلج القطن التي واجهت مبكرا صعوبات لا توصف في التعاملات المصرفية، وبدأ رأسمالها في التآكل بدلًا من تحقيق ربح يساعدها على الاستمرار في شراء القطن من الفلاحين و دفع تكلفة حلج القطن، فشعرت بأن أيام جمامه الجميلة قد ولت، وأن شهر العسل قد انتهى، وفقدت أمل الاستمرار في ظل الوضعية الجديدة، وضعية سيطرة رعاة الإبل على مقاليد السلطة في مقديشو، فأغلقت أبواب مصانعها إلى الأبد، وبذلك انحدر الآلاف من سكان مدينة جمامه إلى هاوية الفقر والفاقة بعد أن فقدوا وظائفهم ومصدر رزق أطفالهم.
ومع بداية هروب شركات حلج القطن، لاحظت شركات بيع مشتقات النفط العالمية انخفاض مبيعاتها، فأسرعت إلى الهروب من المدينة، وتحولت محطاتها التي كانت تتلألأ بالأنوار إلى ظلام دامس، ثم إلى أثر بعد عين، ولم يصمد منها سوى شركة “أجيب” الإيطالية، وبذلك فقد المئات من العمال والموظفين مصدر رزقهم، وتشرفوا بالانضمام إلى طابور العاطلين عن العمل إلى أجل غير مسمى.
وبالتساوي مع هروب شركات حلج القطن وشركات بيع مشتقات النفط، كانت تجري على قدم وساق عملية بيع الفلاحين الطليان مزارعهم، ومعداتهم الزراعية لوزراء ونواب العشائر المسيطرة على السلطة والمنتمية لشرق ووسط الصومال، وبذلك فقدت ناحية جمامه وفقد الصومال إلى الأبد جميع العائلات الإيطالية ذات الخبرة الواسعة بأسرار إنتاج المحاصيل النقدية، أو بكلمات أخرى فقد ناحية جمامه كل العائلات الإيطالية التي قام على أكتافها مشروع ربط اقتصاد هذه الناحية بالاقتصاد العالمي عبر بوابة تصدير منتجاتنا الزراعية والصناعية إلى الأسواق العالمية.
كانت هذه الفئة – أي الملَّاك الجدد لمزارع الموز والحمضيات والفواكه – في غالبها الأعظم أناسا من أصول رعوية، ورجالا أميين أو أنصاف أميين نهبوا خزينة الدولة والمال العام ببصمة إبهام أو بجرة قلم بهدف شراء هذه المزارع دون امتلاك أدنى خبرة في مجال إدارة المزارع المنتجة للمحاصيل النقدية، أو حتى خبرة بسيطة عن الزراعة على وجه العموم.
بل الأسوأ من ذلك في هذه النقطة بشكل خاص، هو أن طمع وشره هذه الفئة البدوية المتنفذة في امتلاك أراضي زراعية لم ينتهِ عند شراء مزارع الفلاحين الطليان فحسب، بل امتد إلى مستوى نهب أراضي ومزارع عشائر صوماليي بانتو Somali Bantu وغيرها من العشائر المستوطنة في ضفاف نهري شبيلِّي وجوبا باستخدام سلطاتهم كوزراء ونواب في البرلمان.
إلى جوار كل هذا، لم يكن الملاك الجدد لحقول الموز وبساتين الفواكه والحمضيات على استعداد للسكن والإقامة في البيوت الإيطالية الجميلة في مزارعهم الجديدة، وتحمل القليل من لسعات البعوض والحشرات الأخرى، كما فعلت العائلات الإيطالية، بل فضلوا على ذلك قضاء الأمسيات في احتساء الكابتشينو في مقاهي فنادق العاصمة لتداول آخر أساليب نهب المال العام.
والشخص الوحيد المستثنى من هذه الظاهرة هو السيد آدم عبد الله عثمان الرئيس الأول لجمهورية الصومال، الذي سكن في المزرعة التي اشتراها من الطليان في إحدى قرى على ضفاف نهر شبيلي بعد أن غادر فيلا صوماليا، أي مكتب ومسكن رئيس جمهورية الصومال.
أدت هذه الوضعية، أي وضعية غياب ملاك حقول الموز وبساتين الفواكه والحمضيات إلى وقوع إدارة هذه المزارع في أيدي أناس تتلخص مواهبهم وخبراتهم الزراعية في كونهم أقرباء ملاك المزارع الجدد، مما أدى -بطبيعة الحال- إلى سوء إدارة هذه المزارع، ونهب حقوق عمال الزراعة، بل والاعتداء عليهم جسديًا، بالتالي انحدرت القدرة الإنتاجية لهذه المزارع وضعُف التصدير، ونضُب بالتالي مصدر هام من مصادر العملة الصعبة للدولة الفتيَّة.
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الشبكة، وإنما تعبر عن رأي أصحابها!