من جانب آخر، نعلم جميعًا، أن الهدف الوحيد من بناء ورصف الطرق في العالم أجمع هو ربط المدن والقرى بعضها ببعض بهدف ربط المجتمعات الصغيرة بالمجتمع الكبير، ومن ثم تنشيط الاقتصاد عن طريق تسهيل تنقل الأفراد والجماعات، ونقل البضائع بهدف تنشيط التجارة.
وإذا كانت تلك الفكرة شيئابديهيا يعرفه كل شخص، فهل تصدق أن بلدية/ ناحية جمامه التي تربعت في المرتبة الثانية في سباق البلديات المنتجة للثروة بعد بلدية جوهر المصدرة للسكر والكحوليات والعطور تعرضت للتهميش والعزل الاقتصادي المخطط من قبل الدولة الصومالية الفتية التي شعر كل فرد في مدينة جمامه انتماءه إليها يوم إعلان استقلالها.
ظهر هذا مشروع التهميش المخزي، والعزل الاقتصادي المبيت إلى الوجود أثناء رصف الطريق الذي يربط مدينة كسمايو بمدينة جلبJilib، مع العلم أن مدينة جمامه تقع جغرافيًا في منتصف الطريق بين المدينتين، وتبعد نحو 60 كم من كل مدينة على حدا.
ولتنفيذ هذا المشروع، أي مشروع تهميش مدينتي الصغيرة، وُضِعَت مدينة جمامه خارج خريطة رصف الطريق الذي يربط مدينة كسمايو بمدينة جلب، ولم تجد اعتراضات وشكاوى أهل هذه المدينة بعدم عزل مدينتهم عن المجتمع الكبير آذانا صاغية في هذه الدولة التي لم يمثلهم فيها أحد، وبذلك واجهوا بؤسا آخر يضاف إلى البؤس الناتج عن هروب شركات حلج القطن، وشركات بيع مشتقات البترول والعائلات الفلاحية الإيطالية.
لم يجد أهل جمامه تفسيرا لهذا القرار السياسي المؤدي إلى عزل مدينتهم عن خريطة رصف الطرق، ومازالوا حتى اليوم، وبعد مرور أكثر من 60 عامًا من استقلال الصومال، يتهمون ” دولة الفساد” بمحاولة عزلهم عن المجتمع الكبير وإرجاعهم إلى العصر الحجري عن طريق فصلهم عن الشريان الناقل لمكونات الحياة أي الطريق المرصوف الذي يربط ميناء كسمايو بمدينة جلب.
وخلاصة القول هي أن ظلم وتهميش ” دولة الفساد” للشرائح المنتجة من المجتمع الصومالي لم تكن مقصورة على سكان بلدية جمامه، بل شمل كل المحافظات والبلديات الواقعة جنوب محافظة هيران التي تعتبر جغرافيًا الحد الفاصل بين المحافظات الرعوية الواقعة في شمالها والمحافظات الزراعية والحضرية الواقعة في جنوبها.
في صبيحة يوم 21 أكتوبر عام 1969، وعقب إعلان راديو مقديشو انقلاب العسكر على السلطة، خرجت الجماهير المستبشرةُ خيرًا إلى شوارع العاصمة بأسلوب عفوي، ولوَّح المتظاهرون أغصانا خضراء.
نظر الشعب الصومالي إلى قائد الانقلاب الجنرال محمد سياد بري على أنه “المنقذ من الضلال” و”المهدي المنتظر” الذي يملأ الأرض قسطًا وعدلًا، بعد أن ملأتها دولة الفساد ظلمًا وجورًا.
وقف الشعب الصومالي عن بكرة أبيه صفًا واحدًا خلف قيادة البلاد الجديدة. ولضمان الحصول على مزيد من التأييد الشعبي، ومن ورائه شرعية السيطرة على الحكم،استخدم العسكرفي الأشهر الأولى من حكمهم الراديو وكوسيلة لنشر بعض مفاسد ” دولة الفساد”وأسماء الوزراء المتهمين بنهب الثروة العامة، وتزوير الانتخابات، وحكر منح الدراسة في الجامعات الأوروبية على أبناء العشائر المتنفذة، والتجهيل المنظم لأبناء عشائر الوطن غير الممثلة في السلطة، وتحويل سيارة الدولة إلى سيارة أجرة أو سيارات شخصية لأولاد وبنات المتنفذين، إلى جوار تقاضي مئات المدرسين الوهميين مرتبات من وزارة التربية والتعليم وغير ذلك من تجاوزات دولة الفساد التي لا تعد ولا تحصى.
ولأن شر البلية مايُضحك، ضحك سكان مدينة جمامه كثيرًا عندما سمعوا عبر الراديو أسماء 6 سيدات أميات من المهاجرات إلى المدينة من محافظة الشرق Bari كن يتقاضين مرتبات لثماني سنوات متتالية بوصفهن مدرسات في المدرسة الابتدائية في المدينة.
عاش الناس في وطن الصومال بعد انقلاب العسكرخمس سنوات ذهبيه سادها فيها العدل، وشعر الناس بالمساواة، وتأجج شعور الانتماء إلى الوطن لا القبيلة، ثم بدأ الفساد الكامن في بنية نظام العسكر القبلية يطل برأسه بعد أن أمن الرئيس احتمال بقائه على منصب رأس الدولة لأجل غير مسمى، فعين ابن عمه وأخية غير شقيق عبد الرحمن جامع برى وزيرًا للخارجية؛ مما دل على عودة المحسوبية للنظام.
وبعد الهجوم الغبي الذي شنة الجيش الصومالي على جارتنا إثيوبيا، والهزيمة النكراء التي لحقت بنا في حرب 77/78، عادت حليمة إلى عادتها القديمة، ولم يعد تمركز السلطة في يد نفس العشائر التي سيطرت على الحكم في زمن “دولة الفساد” سرا لا يعرفه أحد، وعليه؛ هوى اقتصاد الوطن إلى الحضيض، تالية لانتشار المحسوبية وتعشش الفساد في هياكل الدولة واستحكام التضخم إلى درجة أصبح فيه المرتب الشهري لأستاذ الجامعة لا يساوي أكثر من قيمة وجبة غذاء واحدة في أحد المطاعم الشعبية في شارع مكة.
وعليه، استحالت الحياة في ظل هذا الفقر المدقع، وأصبح الصومال طاردًا لأبنائه بعد أن كان جنة للمهاجرين في زمن المستعمر، وبالتالي أصبح أفول نجم العسكر قدرا مكتوبا كما يقول أهل الدين، أو حتمية لا مفر منها كما يقول المتأثرون بالمنطق الرياضي والعلوم الطبيعية.
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الشبكة، وإنما تعبر عن رأي أصحابها!