المنطقة الشرقية:
في منطقة شمال الشرق ليست أقل نشاطاً وحيويةً من المناطق الأخرى في الأراضي الصومالية، والمتتبع للحياة العلمية يلاحظ أنّ المنطقة اشتهرت بكوكبة من العلماء والفقهاء الذين ظهروا في ساحات العلم والمعرفة في القرنين الماضيين، وبالذات في المدن الساحلية كالحافون وأيل وقندله وغيرها، ومن هؤلاء الأعلام:
- الشيخ صالح حلديد السواخروني.
- الشيخ محمد يوسف.
- القاضي الشيخ على محمود آدم.
- القاضي شريف محمد علي.
- الشيخ علي عبد الرحمن فقه المشهور ( الشيخ علي المجيرتين)
- الشيخ نور الدين بن أحمد علو ( رائد المدرسة السلفية في عهده)
ورغم ما مرت به المنطقة من حالات صعبة غير مستقرة في هذه الفترة إلا أنّه مع هذه الظروف القاسية استمرت الأمة في مواصلة نشر العلم وعقد حلقات متنوعة تحت رعاية العلماء ومجالسهم العلمية في المدن والقرى والأرياف، الأمر الذي أدى فيما بعد إلى ازدهار العلم. وسوف نضرب بعض النماذج من هذه المجالس والحلقات التي لها علاقة بفن الصرف علي سبيل المثال لا الحصر، مثل:
– حلقة القاضي شريف محمد علي في حافون، ولم تكن هذه الحلقة تخصص لتدريس فن الصرف فحسب، وإنّما كانت – إلى جانب ذلك – تُعنى بفنون علوم اللغة العربية ككل كالنحو وغيره. وقد استفاد من هذه الحلقة بعض طلبة العلم في المنطقة، ومن هؤلاء فضيلة الشيخ أبو محمد نور الدين علي بن أحمدالمجيرتيني ( فرع علي سليمان) رحمه الله.[1]
ومن الجدير بالذكر أنّ الشيخ نور الدين علي بن أحمد أعطى جلّ همّه تحصيل العلم وتعليمه حتى شدّ رحاله إلى أماكن مختلفة من داخل البلاد وخارجها، وبدايات رحلاته العلمية الداخلية كانت في مدينة حافون؛ حيث سافر إليها عام 1343ه، وانضم إلى مدرسة تحفيظ القرآن الكريم على يد معلم عمر محمد، وفي الوقت نفسه بدأ دراسة كتاب ” سفينة الصلاة” وكتاب ” أبو شجاع” على يد الشيخ محمد علي حريد الحافوني الذي أعطاه الله عمراً طويلاً، كما درس كتاب ” المنهاج القويم ” على يد الشيخ محمد يوسف ، وكان يحضر دروس القاضي الشيخ علي محمود آدم الذي كان يدرِّس كتاب المنهاج أيضاً، وحضر كذلك دروس القاضي شريف محمد علي في التفسير والعلوم العربية – كما أشرنا آنفاً- ودروس الشيخ محمد محمود شرمأركي في النصف الأخير من التفسير، وسمع من الشيخ محمد علي محمد الربع الثالث من منهاج الطالبين، وأخذ من القاضي الشيخ إبراهيم عمر بكتاب ” فتح المعين” وكتاب ” متن الأجرومية ” كل ذلك يدل على ثراء منطقة شمال الشرقي للبلاد ونشاطها العلمي وكثرة علمائها في مختلف العلوم والمعرفة في تلك الفترة وبخاصة مدينة حافون التي ذكرها المسعودي في كتابه مروج الذهب ومعادن الجوهر في وقت مبكر.
ولم يتوقف نشاط الشيخ في طلب العلم على هذا الحد وإنّما أيضاً لازم دروس الشيخ آدم أحمد موسى في التفسير من كتاب ” الجلالين” بحاشية الصاوي وحاشية الجمل، كما استفاد من حلقة الشيخ آدم أحمد موسى المذكور في مجال الفقه بحيث أخذ منه سماعا ” ابن القاسم علي الباجوري” وكتاب ” الزبد” وكذا كتاب ” منهاج الطالبين مع شروحه، إضافة إلى العلوم العربية ، أما كتب الحديث فسمع منه كتاب ” الأربعين النووية” وكتاب ” أبو جمرة” ، واستفاد من شيخه أيضاً ما يتعلق بالتصوف مثل كتاب ” تنبيه الغافلين” وكتاب ” تنوير القلوب “وكتاب ” طهارة القلوب” وكتاب ” درة الناصحين” وكتاب ” دقائق الأخبار” وكتاب ” كفاية الأتقياء. وفي علم العقيدة فقد تلقى فضيلة الشيخ نور الدين بعض كتب العقيدة التي كانت منتشرة في القطر الصومالي في تلك الفترة مثل كتب عقيدة العوام، والسنوسية، وجوهرة التوحيد، وبدء الآمالي، والدريرية، والشيبانية ، والنسفية، والباجورية ، وكفاية العوام ، وحياة الإسلام، وكلهم من علم الكلام ومن العقيدة الأشعرية التي كانت منتشرة في البلاد.
لقد مكث فضيلة الشيخ نور الدين في مدينة حافون مدة غير قصيرة طالباً للعلم وملازماً لحلقاتها رغم بُعدها من مسقط رأسه وموطن أسرته، لكثرة علمائها ونشاط حركتها العلمية، ثمّ بعد ذلك سافر إلى مدينة أيل الساحلية أيضاً وهناك واصل طلبه للعلم بحيث ألزم نفسه بالحلقات العلمية التي كانت تجري في المدينة.
– أما مدينة أيل الساحلية فكانت أيضاً نشطة وعامرة حتى اتجه إليها مجموعة من الطلبة الذين أتوا من مناطق نائية لطلب العلم، بحيث كانت حركة السفن نشطة، والعلاقة بين سواحل الصومال واليمن وعمان لم تتوقف حتى عند ما سيطر الاستعمار الأوروبي على عمان واليمن والصومال، على الرغم من مراقبة الاستعمار على هذا النشاط التجاري.
فثملاً في فترة الحكم الإيطالي الاستعماري على الصومال كانت الباخرة الإيطالية المسمى ” الأتريا ” تأتي في كل شهر مرة واحدة من فصلَى الشتاء والصيف فقط.
وفي الساحل الشرقي الصومالي قرية كان يسمى ملاحون العرب باسم ” وريقة السماء ” وهي تقع شمال رأس عصير، ويقطنها قبيلة سواخرون (صواخ رون) المجيرتينية، وكانت هذه القرية الساحلية مكان استراحة السفن التي تتجه إلى اليمن ، وكذا من اليمن إلى سواحل الصومال وشرق إفريقيا.[2]
ومهما كان الأمر فإن مرسى أيل كانت نشطة ولم تتوقف رغم الظروف الاستعمارية، بل كان أهل الصومال يستوردون بضائعهم في هذا المرسى المتواضع الطبيعي، وكانت لهم علاقة تجارية مع بعض الموانئ اليمنية وعلى رأسها عدن ، كما كانت تجارتهم تصل إلى الساحل الأفريقي الشرقي مثل زنجبار، ويستوردون منها وإليها مما كان لديهم من بضائع، مثل الجلود والحيوانات بأنواعها، والأسماء المجففة المعروفة في المناطق الشرقية.
ومن المعلوم أنّ أيل تقع على الساحل الشرقي بالقرب من الجبل الممتد في البحر، ذلك الجبل المعروف باسم ( رأس الخيل)، أو ( رأس الخير) كما يسميه أرباب السفن، وكما هو معروف في المجاري البحرية بهذا الاسم، وحينذاك كانت المنطقة تحت حكم الاستعمار الإيطالي، وتسمى بالصومال الإيطالي، علماً أنّ أيل كانت قرية صغيرة، ولها ميناء صغير لا تدخلها السفن الشراعية في فترة الاستعمار الأوروبي لعدم توفر الحركة التجارية فيها، ما عدا البواخر الكبيرة التي كان يمتلكها الأروبيون، كما أشرنا من قبل.[3]
ومما يدل على شهرة النشاط العلمي في مدينة أيل، أنه اتجه إليها بعض أهل العلم وطلبتهم، ويكفي أن نشير إلى رحلة الشيخ نور الدين بن علي إليها بعد عودته من منطقة حافون التي سبق أن أشرنا إلى بعض أنشطتها العلمية ، ولكن أصر الشيخ نور الدين السفر إليها – أي أيل – ، وهناك واصل طلبه للعلم بحيث ألزم نفسه بالحلقات العلمية التي كانت تجري في المدينة مثل حلقة الشيخ محمد فارح قارئ التفسير، وحلقة الشيخ يوسف حسن في اللغة العربية، وكذا حلقة الشيخ علمي عبد الله في اللغة العربية أيضاً، أما فيما يتعلق بعلم الفقه والأحكام فكانت حاضرة في مدينة أيل؛ حيث كان الشيخ القاضي حزر محمد له حلقة خاصة بالفقه الشافعي، وكان يقرأ في حلقته كتاب ” الإرشاد لابن المقرئ “.
ومن هنا، ليس من المستغرب إذن سيادة ظاهرة هذا النشاط العلمي الذي كانت المنطقة تتمتع به ، ومن تلك الأنشطة بعض الحلقات العلمية التي لها علاقة بعلم الصرف، ومنها:
– حلقة الشيخ علمي عبد الله في مدينة أيل الساحلية، بحيث كان الشيخ يدرس علم الصرف، واستفاد منه جمع من رواد العلم ، ومن بين هؤلاء فضيلة الشيخ نور الدين علي بن أحمد.
– حلقة الشيخ يوسف حسن في مدينة أيل حول فن الصرف ، وكانت لهذه الحلقة خصوصية خاصة ، بحيث كان الشيخ يتناول حلقته دراسة اللغة العربية بفنونها المختلفة ، بما فيها علم الصرف؛ لأنّ الشيخ يوسف حسن كان لغوياً ماهراً ، ومن هنا ركزت حلقته على دروس اللغة العربية ، وكان يدرّس بعض كتب اللغة العربية في النحو والصرف، لذلك اتجه إلى حلقة الشيخ طلبة العلم الراغبين في رفع مستواهم اللغوي. ومن هؤلاء الذين حرصوا على هذه الحلقة الشيخ نور الدين بن علي الذي كان ممن يواظب على الحلقة المذكورة عند ما بلغه أمرها، وقد أخذ منه كتاب ألفية ابن مالك.
– ومدينة قرطو من مدن المنطقة الشرقية بالصومال، وتقع في منتصف الطريق الطويل بين مدينتي بوصاصو وغاروي، وكانت – أي قرطو – قبل قدوم الاستعمار الأوروبي على البلاد جزءًا من السلطنة المحلية المسمى بسلطنة المجيرتين التي كانت تتمركز في علولة، ومن الناحية العلمية لم تكن مدينة قرطو أقل شأناً من المدن والقرى في المنطقة، وأهلها كانوا – وما زالوا – يحبون العلم وأهله، بحيث كانوا يقدرون العلماء، بل ويبذلون النّفس والنّفيس لمجاورتهم والاستفادة من علومهم، فهذا أحد الأعلام الصومالية، وهو الشيخ نور الدين علي أحمد الذي ذهب إلى مدينة قرطو تلبية لرغبة أهلها من أهل الحل والعقد، عندما طلبوا منه الانتقال إلى قرطو وعقد الدروس الدينية ، فاستجاب لدعوتهم ودرس لهم تفسير القرآن الكريم ، ولكن بعد مدة تحول الشيخ نور الدين إلى قرية تليح عقب طلب من علماء قبيلة طُلْبَهنْتي وبخاصة عشيرة نور أحمد ، ومن هؤلاء العلماء والوجهاء الشيخ عبد الله علم شردون، والشيخ حرسي نور، والشيخ آدم علي متان، والشيخ محمد آدم، والشيخ أبين كورة، ومن هنا لم يكن للشيخ نور الدين إلا أن لبّى دعوتهم ، وقام بتدريس التفسير وبعض كتب الفقه ككتاب ” منهاج الطالبين للإمام النووي، ولما أتمّ لهم المشروع أعطوه إكرامية عبارة عن عشرة من الإبل ومائتين من العنم ، وتزوج منهم وصاهرهم.
ومن الأنشطة والحلقات العلمية في تلك المنطقة، لاسيما فيما يتعلق بعلم الصرف:
– حلقة الشيخ شريف الطويل التي كان يدرسفيها علم الصرف في مدينة قرطوا وبخاصة في مسجد عمر بن الخطاب، علماً أن حلقة شريف الطويل لم تقتصر على فن الصرف فحسب، وإنّما كانت في مختلف علوم اللغة العربية من النحو والصرف، وبعض كتب الأدب العربي، كشرح المعلقات. وممن استفاد من هذه الحلقة القاضي الشيخ محمد عمر أحمد أحد القضاة بالحكمة العليا في الصومال.
[1] – فضيلة الشيخ أبو محمد نور الدين علي بن أحمدالمجيرتيني من أهمّ الشخصيات الصومالية التي لها وجاهة في الحقل الدعوة الإسلامية في القرن المنصرم، بل وتركت بسمات حية في الجوانب الدعوية والتعلمية في داخل بلاد الصومال وخارجها، بحيث اشتهر رحمه الله بالدعوة والتجديد في تعاليم الدين الإسلامي وجوهر روحه وخاصة فيما يتعلق بالنواحي العقدية حيث يعتبر فضيلته من أوائل الدعاة الذين قاموا بالتصحيحوالغربلة فيما يتعلق بالتوحيد في منتصف القرن المنصرم، وأكثر من ذلك أنّ فضيلته من الأوائل الذين عارضوا علناً بالشطحات والخرافات التي كان يخوض بها بعض الناس، إضافة إلى كونه قضى جلّ حياته على التدريس وملازمة الحلقات بالمساجد وأروقة العلمية، وكذلك في المدارس النظامية. وانظر ترجمته الكاملة في كتاب ” عباقرة القرن الإفريقي، ص ، دار الفكر العربي، القاهرة، 2016م، ص 190 – 214.
[2]– وانظر بدر أحمد سالم الكسادي: أبطال منسيون من ربابنة الملاحة البحرية العربية، اعتنى به محمد علوى باهارون، هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة، دار الكتب الوطنية، ط/1، 1434هـ/2012م، ص 119.
[3]– بدر أحمد سالم الكسادي: أبطال منسيون من ربابنة الملاحة البحرية العربية، المرجع السابق ، ص 91.