فقد عرضنا جهود العلماء على مستوى الصومال الكبير قديما وحديثا في علم الصرف، وتبين لنا من خلال استعراضنا لها بنظرة منصفة أن الجودة العلمية وطريقة تدريس فنون اللغة العربية بصفة عامة لا تقل شأنا -إن لم تكن أفضل – من الدراسات ألأكاديمية في المراحل الجامعية العليا.
وكانت تلك الجهود عامة في كافة الأقاليم الصومالية بحيث لم تخل منطقة من حلقة علمية تعنى بدراسة اللغة العربية، فإن بعض المناطق كانت تفوق على غيرها من المناطق، بل نجد أن بعض المناطق كانت تشتهر بدراسة علم الصرف لشدة عناية علمائها وطلابها بهذا العلم أكثر من غيرهم من العلماء في أرجاء أراضي الصومال.
وكان للمدارس التقليدية في علم الصرف – على مستوى منطقة ساحل الشرق الإفريقي- التي سبق أن أشرنا إليها الفضل؛ حيث مهّدت الطريق للباحثين الأكاديميين الصوماليين الذين برزوا في ميدان البحث العلمي، وخاصة هذا العلم الذي نحن بصدد الحديث عنه.
ونزعم بأن الإنجاز العلمي الأكاديمي في هذا الميدان الذي تحقق على يد الباحثين الصوماليين كان امتدادا لتلك المدارس التقليدية التي أغدقت بعلومها على روّاردها.
لقد أصبح علم الصرف الذي يدرس الكلمة، وما يحدث لها من تغييرات جذرية عدة – سواء كان ذلك حذفا أم زيادة أم تغييرا في الشكل، أو غير ذلك- يمثل جانباً مهماً في حقل الدراسات اللغوية، لذلك فلا يستغرب أن يهرع الطلبة الصوماليون الباحثون وقت اختيار البحوث الأكاديمية والأطروحات العلمية – في مراحل الدبلوم والماجستير والدكتوراه – إلى المواضيع والعناوين ذات الصلة الوثيقة بعلمي النحو والصرف.
وهذا الاهتمام لم يأت عن فراغ؛ لأن دراسة علوم اللغة العربية بفنونها بصفة عامة ودراسة علم الصرف بصفة خاصة من أولوياتهم، ومن أساس العلوم التي رضعوا ألبانها؛ لأن كل إناء بما فيه ينضح.
ورغم غزارة الدراسات والمؤلفات التي[1] أشبعت بحثا علم الصرف إلا أنّ الباحثين ما فتئوا عاكفين – بكل نهم – على دراسته بغية تحقيق إنجاز أكثر مع إضافة نوعية تساهم بالشيء الكثير في رصيد علم الصرف لأهميته بحيث يشكل إلى جانب العلوم اللغوية الأخرى – الأساس لفهم مفردات اللغة ومعانيها التي تؤدي إلى فهم النصوص المقدسة من القرأن الكريم وتعليمها وشرحها، وكذا فهم السنة النبوية الشريفة وتعليمها وشرحها، لهذا يصعب إهمال هذا العلم أو الاستغناء عنه؛ لأنّه يحافظ على سلامة التراكيب الصحيحة، وهو صمام الأمان الذي يحميها كتابةً وتحدثاً، ويعين كذلك في صياغة جملها ومفرداتها ونطقها.
والبحوث التي نستعرض هنا ليست بالضرورة بأن تحمل مباشرة العناوين الصرفية المعروفة عند أهل الفن، والتي تعالج الأبواب المتعلقة ببناء الكلمة وأحوال هذه الأبنية التي لا تخصَ الإعراب ولا البناء، ذلك لأن الصرف يبحث التغيير الذي يظهر على صيغة الكلمة وبنيتها؛ الصحيح الذي خلا من أحرف العلة بأقسامه الثلاثة: السالم والمهموز والضعيف والمعتل بأقسامه الأربعة: كفعل معتل مثال، وفعل معتل أجوف، وفعل معتل ناقص، وفعل معتل لفيف. وليس هدفنا هنا حصر كل البحوث والدراسات المتعلقة بعلم الصرف؛ لأنّه أمر في الحقيقة يصعب تحقيقه وتنفيذه، ولكننا نحاول بقدر الإمكان ضرب بعض النماذج من خلال عرضنا لبعض الدراسات والبحوث الأكاديمية التي قام بها الباحثون من أهل الصومال، لنولي بعض الأهمية بحيثيات الدراسة من حيث هي ومداراتها، ومناقشة الفكر الرئيسي للبحث.
الرحلة العلمية إلى خارج المنطقة
ولكي يتمكن الباحثون الصوماليون من الحصول على العلم والمعرفة في مجال اللغة العربية شرعوا في الرحلة العلمية إلى مراكز العلم في اليمن والحجاز والشام ومصر وغيرها، والتي كانت تشكل منذ القرون الوسطى أوكارا للعلوم الشرعية والعربية تستقطب طلبة العلم من الداخل ومن الخارج.
هذا، ونستطيع القول بأنّه لم تتوقف الرحلات العلمية لطلبة العلم والباحثين من أهل الصومال؛ حيث كانوا ضمن الروّاد الذين نهلوا من تلك المنابع العلمية منذ ذلك الوقت حتى يومنا، وفرضوا أنفسهم على كل ميدان من ميادين العلم والمعرفة حتى أثبتوا جدارتهم، وصار لهم وجود ذو طابع ملموس. وكانت تلك الرحلات العلمية التي تتابعت على قدم وساق نابعة عن قناعة وإدراك لدى طلبة العلم في بلاد الصومال، لأهمية دراسة اللغة العربية في موطنها الأصلي سواء كان ذلك في المراكز أو الجامعات والمعاهد المتخصصة في ذلك أو غيرها، الأمر الذي استهواهم وحفّزهم؛ لأن يشدّوا الرحال إلى الديار العربية بهدف نيل العلوم الإسلامية والتفقه في الدين. وحيث إنهم اصطحبوا معهم خلفية لغوية رصينة ومتينة في علمي النحو والصرف، فإنهم لم يواجهوا أية صعوبة في الاستمرار والاستزادة من المعرفة والتعمق في العلم.
وقد شرع بعض الباحثين في اختيار بحوثهم وأطروحاتهم العلمية حول علم الصرف ومجالاته مع الإدراك والمعرفة مسبقاً بأنّ الخوض في مسائل علم الصرف ليس أمراً يسيراً، الّا إذا حالف توفيق الله الإنسان، ثم تحلى بالصبر وتجشم المعاناة لنيل المأرب ولتحقيق الهدف.
ومن هنا تجاسر الباحثون الصوماليون – كغيرهم – مخاطر الخوض في علم لم يحظ بما نال غيره من العلوم من حيث الدراسة والبحث العلمي الذي يخدمه ويعبّد للناس طريق الوصول إليه. ولاشك في أن عودة هذه الرحلات العلمية الوطنية وغيرها إلى البلاد باتت فيما بعد من العوامل التي طورت الحياة الثقافية في الصومال وبخاصة اللغة العربية، رغم ما حدث من الانهيار والدمار في البلاد.
الباحثون امتداد من المدارس التقليدية
القرآن الكريم هو أول ما كان يبدأ به طالب العلم في الصومال في طفولته، وبعد إتمامه من هذه المرحلة كان يشرع في إكمال رحلته العلمية الطويلة، كدراسة علوم اللغة العربية، لاسيما وأن علم النحو والصرف من أوائل ما كان يهتمّ به طالب العلم المبتدئ. ومن هنا لم يكن من الغرابة بمكان من أن يضطر أهل العلم في الصومال وأساتذة الحلقات العلمية في المساجد والزوايا لتأليف ووضع كتب مفيدة، ورسائل نفيسة في علمي الصرف والنحو؛ لأنّهم – كما ذكرنا سابقاً- كانوا يرون أنّ تعلم النحو والصرف وسيلة لفهم الشريعة والدين وليس غاية بذاته. وأنّ فهم الشريعة والتفقه في الدين من أوجب الواجبات حسب اعتقادهم، وبالتالي فقد التمس كثير من طلاب العلم الاستمرار والمحاولة طلب المزيد من المعرفة والتعمق في العلم من خلال الحلقات العلمية المنتشرة في ربوع بلاد الصومال، والتي كان يعقدها العلماء والفقهاء على مر الزمان.
والمتتبع بآثارالباحثين وتراجمهم[2] يظهر له بأنّ غالبتهم تخرجوا في الحلقات العلمية التي كان يسوسها العلماء العارفون، كل في تخصصه، بما في ذلك المتخصصون في علمي النحو والصرف.
وقد تحدثنا عن نوعية العلوم التي كانت تدرس في الحلقات العلمية بالصومال ، وخاصة الدروس والمواد التي تتعلق باللغة العربية وآدابها ، ورأينا أن هذه الحلقات والزوايا كانت تدرس أغلب العلوم العربيه من نحو وصرف وبلاعة وعروض ومنطق وغير ذلك من فنون اللغه العربيه. أما فنّ الصرف فأشهر كتبه في الحلقات الصومالية لامية الأفعال لابن مالك الأندلسي، وشرح نجله بدر الدين، ونظم حديقة التصريف للعلامة الصومالي الشيخ عبد الرحمن الزيلعي ت(1880)، وشرحه للمؤلف نفسه (فتح اللطيف في شرح حديقة التصريف)، وكتاب ( نثر الجواهر في قاعدة الصرف الفاخر للشيح عبد الرحمن بن الشيخ عمر الأبغالي الصومالي، ثم الشافية في علم التصريف لابن الحاجب (ت646هـ) وكتاب الترصيف في علم التصريف للشيخ عبد الرحمن بن عيسى العمري.[3]
[1]– انظر على سبيل المثال ممن كتب في مجال دراسات في علم الصرف كنموذج:
- د. عبد الله درويش: دراسات في علم الصرف، ط/2، مكتبة الطالب الجامعي، مكة المكرمة، 1408هـ/1987م.
- أ.د. السيد أحمد علي محمد: دراسات في علم الصرف، دار الجوهرة، القاهرة – مصر، 2014م.
- ا.د. مجيد خير الله الزاملي: دراسات في علم الصرف، دار الكتب العلمية، بيروت.
- د. أمين علي السيد: دراسات فيلصرف، مكتبة الزهراء، القاهرة، 1989م.
[2] – ويظهر جليا في ذلك الامر خلال قرآءة معجم المؤلفين الصوماليين في العربية، لدكتور محمد حسين معلم علي.
[3]-عمر محمد ورسمه: تجربتـان في تعليم اللغة العربية في الصومـال ، ورقة بحث إلى المؤتمر الدولي الثالث للغة العربية بدبي 17 – 10 مايو 2014م.