ولم تقف مصائب حكم العسكر عند هذا الحد، بل أعلنوا في أيام عزهم احتكار شراء وبيع وتخزين الذرة والسمسم، وكذا الغذاء الرئيس لغالبية الشعب الصومالي.
ليس في ذلك عيب، ولكن العيب هو أن دولة العسكر فرضت تسعيرة محددة لشراء الذرة والسمسم، وللأسف كانت هذه التسعيرة أقل من ثمن التكلفة.
لم تجد دولة العسكر من يبيع لها محصول مزرعته بسعر أقل من ثمن التكلفة، واعتبرت هذا الفعل نوع من خيانة الوطن، وظنت أن الحل يكمن في أرسال أفراد من القوات غير النظامية Guulwadeyaasha إلى مزارع الفلاحين أيام الحصاد.
كانت المهمة الأولى لهذه القوات هي أن تمنع الفلاح من بيع محصول مزرعته إلى غيره، أو أن يأخذه إلى بيته، أو يخزنه بطريقة ما أو بأخرى، بل وأن تجبره على بيعه للدولة ممثلة بوكالة التنمية الزراعية ADC بسعر أقل من التكلفة.
تتوقف حياة الفلاح وأسترته على ما تنتج مزرعته من محاصيل غذائية قابلة للتخزين مثل الذرة والسمسم، وعليه تحايل الفلاحون المعتمدون على زراعة الذرة والسمسم على هذه المصيبة بطرق كثيرة منها على سبيل المثال حصاد جزء من المحصول ليلًا وتخزين الذرة في قبور آبائهم وأجدادهم، وعصر السمسم ليلًا في أماكن نائية بعيدًا عن أعين العسكر، وغيرها من الطرق الملتوية التي تساعدهم على الاحتفاظ بجزء من انتاجهم للبقاء على قيد الحياة.
وعندما ساءت الأحوال، ووصل الأمر إلى سجن الفلاح لمجرد أنه سرق جزء من محصول مزرعته، ترك أغلب الفلاحين زراعة الذرة والسمسم، وانتقلوا إلى زراعة البقوليات والخضروات وغير ذلك من المحاصيل التي لا يمكن تخزينها لفترات طويلة، وكان رد فعل الدولة على ذلك هو شراء قوت شعبها من الخارج.
أما من حيث الخدمات التي يتوقع أن توفرها الدولة للشعب، يتندر أهل جمامه المتميزين بخفه الدم، وخلق القفشات المضحكة من لا شيء، بأن ناحيتهم كانت آخر ناحية تبني فيها حكومة العسكر مدرسة ثانوية، وأن السبب في ذلك هو أن ناحيتهم هي الأولى دائمًا عندما يتعلق الأمر دفع الضرائب وجمع التبرعات، وأنه من الصعب أن تكون الأول في جميع الأصعدة.
والمؤسف هو أن هذه المدرسة التي يتندر أهل جمامه بآخر مدرسة ثانوية تبني في الوطن الصومالي بأسره، تهدمت على رأس طلابها، والعاملين فيها، بعد أشهر معدودة من افتتاحها.
فَقَدَ بعض من المدرسين والتلاميذ أرواحهم في هذه المأساة، وعَلِقَ بعضهم تحت الأنقاض لأكثر من عشرين ساعة قبل أن يتمكن الأهالي من رفع الركام بأيدهم العارية.
ومع ذلك، لم تقم الشرطة أو غيرها بأي تحقيق يتعلق بهذا الحدث المفجع، ولم يتحمل أحد مسؤولية هذا الجرم، بمن في ذلك المسؤول عن بناء المدرسة أي المقاول اليمني “بدر” المسنود من طرف، كما لم يتم تعويض أسر وأقارب الضحايا، بل ذهبت دماؤهم سدى.
وكل ما حدث بعد ذلك هو إعادة بناء المدرسة من جديد تفاديًا من غضب سكان الناحية.
وبعد هزيمة 77/ 78 غابت الكهرباء، وخربت صنابير المياه الصالحة للاستخدام البشري التي تركها لنا المستعمر، وأصبحنا نستضيء بحرق شحم الحيوان أو الكيروسين في فوانيس بدائية، ونشتري الماء الملوث الذي ينقل على ظهر الحمير؛ مما يعنى الانفصام عن الحداثة والنكوص إلى حال أجدادنا في عصر الظلمات أي قبل أن تحط السيدة مارجريتا رحالها في قريتنا الاستوائية المجهولة في حدود 1924.
وعندما أضافت دولة العسكر عشرة محافظات جديدة المحافظات الثمانية التي تركها المستعمر شرف الصومالي بعض من هذه المحافظات على الفور بلقب Gobollada Cidlada ah أي ” المحافظات الخاوية من السكان”.
لم تنل ناحية جمامه الواقعة على ضفاف نهر ج”ُوبا” والمزدحمة بالسكان حق الارتقاء إلى مستوى محافظة، والمضحك المبكي في هذا الأمر هو أن عدد سكان بعض القرى المجهولة التابعة لناحية جمامه أكثر بكثير عن عدد سكان عواصم تلك المحافظات الجديدة والخاوية من السكان، وأن عدد سكان ناحية جمامه أكثر من مجموع سكان أي محافظتين من المحافظات الخاوية من السكان.
يوم الاستقلال كانت جمامه مدينة واعدة، آمنة، مطمئنة، ذات قدرة إنتاجية نوعية، جاذبة للشركات العالمية، والعمال المهاجرين، ومليئة بالحياة والحركة وشبيه إلى درجة ما بمثيلاتها بالمدن الأوروبية الصغيرة.
وأخيراً أود أن أسأل متصفح هذا المقال: متى كانت مرجريتا حرة ومستقلة، ها في أيام ما نطلق عليه المستعمر الغاشم، أم بعد الاستقلال ورفع العلم فوق السواري؟
وهل تظن أن الوقت قد آن لإعادة تعريف مصطلحات مثل الاستعمار والاستقلال؟وهل يعنى الاستقلال العودة إلى قانون الغاب وعقلية عشائر الصحراء أم هو شيء آخر غير ذلك؟
وهل المجتمعات الرعوية ناضجة فعلاً، وقادرة على إدارة دواليب دولة ديموقراطية قادرة على التصالح مع نفسها والعيش بسلام مع جيرانها والعالم من حولها.
بعد سقوط نظام العسكر نال الصومال عن جدارة لقب “الدولة الفاشلة” وساد فيها قانون الغالب وعقلية عشائر الصحراء، وبعد ثلاثة عقود من هذا التيه لاأحد يرى بصيص من النور في النفق المظلم الذي ساقنا إليه الاستقلال الذي فرض علينا من قبل قوى خارجية كانت ترعى مصالحها الخاصة.
وعند هذه النقطة أتوقف عن الكتابة، مع شعوري بأن السيدة مرجريتا التي وهبت نفسها لسكان هذه المدينة تئن في قبرها بعد أن أخبرها الجن الأبيض الذي أحضرته معها من بلادها ما فعل فينا الاستقلال.
ملاحظة:
بعد هروب الرئيس محمد سياد بري من عاصمة البلاد على ظهر دبابة بتاريخ 26 يناير 1991 وصل وزير دفاعه الجنرال محمد سعيد حرسي مورجانMaxamed Siciid Xirsi Morgan إلى مدينة جمامه وهو في حالة نفسية بائسة، فأقدم هو وقواته، وبمساعدة وإرشاد بعض من أبناء قبيلته المولودين في مدينتي الصغيرة على إقامة مذابح، وإبادة جماعية لسكان مدينة جمامه وسكان القرى والبوادي التابعة لهذه الناحية.
والمؤسف في هذه الفجيعة هو أن لا أحد يعرف حتى اليوم العدد الحقيقي لضحايا هذه المذابح التي استمرت على قدم وساق لأكثر من أسبوعين وشملت منطقة جغرافية واسعة.
قتلت قوات الجنرال مورجن والمتعاونين معها من أبناء قبيلته المولودين في مدينة جمامه كل من وقع عليهم بصره من الرجال والنساء والأطفال دون تمييز، كما اختطفوا حسب تقدير السكان المحليين أكثر من 500 فتاة، لا أحد يعرف مصيرهم حتى اليوم، وما زال أهل وأقرباء البنات المخطوفات في انتظار عودتهن حتى اليوم.
إلى جوار هذا، نهب الجنرال مورجان وقواته المصارف والمحلات التجارية وبيوت بعض الأغنياء، كما نهبوا من البوادي ما استطاعوا نهبه من الجمال وقطعان الماشية، ثم أبادوا بالرصاص ما استطاعوا إبادته من قطعان الماشية بهدف قتل العائلات البدوية وأطفالهم الأبرياء بالجوع.
ومن المؤسف أيضًا أن هذه المذابح والإبادة الجماعية لم تصل إلى علم وسائل الإعلام المحلية والعالمية بسبب عدم تواجد صحفيين في ناحية جمامه في عام 1991.
اليوم، يشغل هذا الجنرال المجرم الذي تقطر من أصابعه دماء رجال ونساء وأطفال أبرياء منصب سيناتور في الغرفة العليا لبرلمان جمهورية الصومال الفيدرالية، كما تم تعينه في منصب مستشار الرئيس في شؤون الدفاع وبناء الجيش من قبل رئيس ولاية بونتلاند Puntland في شهر سبتمبر 2020
- Cabdi Kuusow
- Putting the cart before the horse: contested nationalism and the crisis of the nation-state in Somalia. Red Sea Press. p. 86. ISBN 9781569022023.
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الشبكة، وإنما تعبر عن رأي أصحابها!