ثالثاً: دخول وانتشار اللغة العربية في الصومال
للغة العربية لغة الضاد تاريخ قديم وطويل في منطقة شرق القارة الإفريقية، بل وفي منطقة القرن الإفريقي بالتحديد التي تقع فيها دولة الصومال.
وأن الحديث عن دخول اللغة العربية وانتشارها في منطقة الصومال لا يعني بالضرورة مجرد دخول أو وصول إليها، حيث أنه يصعب تحديد تاريخ ثابت معين لدخولها إلى الأراضي الصومالية، إذا كان الأمر مجرد دخول. ولكن ما نعنيه من دخول اللغة العربية وانتشارها في الصومال وجودها الحقيقي بل ووجود مجموعة ناطقة باللغة العربية أصلاً، تقطن المنطقة بشكل دائم أو مرحلي وزمني، لها نشاط وأثر ملموس في المجتمع مهما كان حجم ذلك النشاط أو أثره، وقد تطول طبيعة هذا النشاط من أن يكون تجارياً ودعوياً وسياسياً بل ومجرد سكن وبحث عن حياة أفضل وأكثر أمناً واستقراراً.
وأن طبيعة حياة البشرية قديماً تصطبغ وتتسم بالتنقل والترحال من مكان إلى آخر ، ومن بيئة إلى أخرى جرياً وراء المصلحة الخاصة، وبحثاً عن الربح والمنفعة، بل وحياة أفضل لأنفسهم ولأنعامهم وبهائمهم التي لا تتأتى وتطيب لحياة مستقرة طيبة إلا بوجود الكلأ والماء. وبين هذا وذاك تتواصل الأمم بلسان ولغة إذ هي الوعاء الفكري للمجتمعات، ولا تنفك عنها بأي حال من الأحوال، تسمو وتتطور مع رقيّ المجتمعات ثقافياً واجتماعياً وسياسياً، ويتدني مستواها بل ويندثر بعضها بإنحطاط تلك الأمم وتخلفها.
ولا شك أيضاً أن هناك عوامل داخلية وأخرى خارجية ساعدت ولعبت دوراً كبيراً في دخول وانتشار اللغة العربية في ربوع الصومال، ولكن قبل أن نخوض في سرد وذكر أهم تلك العوامل المساعدة دعنا ندلف قليلاً عن الحديث عن طبيعة هذا الحدث أو حتى تسليط بعض الأضواء على حيثيات هذه الواقعة التاريخية لدى الكتّاب والمؤرخين الذين أرخوا لهذه اللحظة عبر العصور المختلفة وعبر كتاباتهم قديماً وحديثاً.
معلوم أن اللغة العربية هي اللغة التي تتكلم بها العرب فهي قديمة قدم تاريخ الإنسان العربي على أرض العرب، ومنها انتشرت إلى بقاع الأرض في أوقات وظروف وآليات مختلفة، وما يهمنا في الموضوع هو اللغة العربية في الصومال، متى دخلت؟ وكيف كان انتشارها في ربوع الصومال عبر العصور المختلفة؟
إن الآراء متباينة حول دخول ووصول اللغة العربية إلى الصومال، إلا أن هناك عدة حقائق وآراء حول الموضوع تدل ضمناً على وجود اللغة العربية ووصولها إلى المنطقة منذ أمد بعيد، ورغم أن الموضوع بحاجة إلى دراسات مطوّلة ومجالات واسعة للتناول عن كل حيثياته إلا أننا نلقي نظرة سريعة على تلك الحقائق.
أولاً: لقد أنشأ الموقع الجغرافي للصومال صلة قديمة بينها وبين عرب شبه الجزيرة العربية، صلة ترجع إلى ما قبل ظهور الإسلام وذلك بسبب التجارة، ومن ثم توطّدت هذه الصلة بعد ظهور الإسلام واعتناق سكان الصومال له، وحرصهم على فهمه عن طريق تعلم لغته. وبصدد ذلك حظيت اللغة العربية باحترام كبير من جانب الصوماليين.([1])
ثانياً: يرى بعض المؤرخين أن بعض القبائل الصومالية نزحت من الجزيرة العربية قديماً، وعلى فترات متباعدة منذ الألف الرابع والخامس قبل الميلاد، كما أشرنا إليها في حلقتنا السابقة، فوصول هؤلاء إلى المنطقة ووجودهم فيها يعتبر جزءا من وصول العربية ودخولها إلى بقعة الصومال، ورغم أن هذا الرأي بحاجة إلى نظرة علمية وتاريخية عميقة حول تسمية الصومال، هل منذ ذلك التاريخ الذي إشار إليه المؤرجون كانت تسمى المنطقة باسم الصومال، أم أن هناك مسمى آخر ، لإن تاريخ كلمة “الصومال” وتسميتها أو إطلاقها على هذه الأراضي التي يقطن فيها الصوماليون قريب من تلك التواريخ. إذاً فالرأي بحاجة إلى تأويل وتفسير ليتّضح المقصد منه.
ثالثاً: تؤكد البحوث التاريخية الحديثة أن السبئيين- وهم عرب شبه الجزيرة العربية – قد استوطنوا في مناطق عديدة من الساحل الشرقي لإفريقيا، وأن السبئيين لم يكونوا منعزلين، بل اختلطوا بأهل الساحل، وتزوجوا منهم، وأقاموا محطات تجارية بل اختلطوا في موطنهم الجديد.
ومن الطبيعي إذاً أنهم حملوا معهم لغتهم وعاداتهم وطبائعهم وفنونهم وخبراتهم التجارية، وبدأ الطابع العربي المتميز يظهر على طول الساحل منذ منتصف الألف سنة التي سبقت ميلاد المسيح عليه السلام، ويعتبر الاستيطان العربي بمثابة عملية صوملة للجنوبيين من العرب، وتعريب لأبناء الشعب الصومالي([2] ).
رابعاً: يذكر المؤرخون أيضاً أن صلات قوية كانت تربط الصومال بأشقائه العرب، ويرجع ذلك إلى ما قبل ظهور الإسلام في الجزيرة العربية بعدة قرون، عند ما كان الصومال جزءاً من إمبراطورية تجارية عربية كبيرة تضم جنوب شبة الجزيرة العربية وساحل خليج عدن، وهذه العلاقة الوطيدة بين الصومال والجزيرة العربية لهي أوضح دليل على أن اللغة العربية كانت موجودة في الصومال قبل الإسلام بقرون، وإلّا كيف تقوم إمبراطورية تجارية بهذا الحجم بين العرب والصومال بدون أن تعتمد على اللغة العربية كلغة تجارية رسمية؟ نعم لأن التجار هم أكثر الناس نشراً للغتهم في البيئة التي يعيشون فيها.
خامساً: عند ما جاء الإسلام جعل من العرب والصوماليين سبيكة واحدة، كأنهم من سلالة واحدة انبثقت من دوحة واحدة هي دوحة الجنس الواحد، ودوحة الدين الواحد، وهو الإسلام([3] ).
كل تلك الحقائق والسرد التارتخي عن المؤرخين والكتّاب توحي وتشير إلى دخول اللغة العربية إلى الصومال في وقت مبكر مع صعوبة تحديد تاريخ الدخول بشكل رقمي. ومن جانب آخر لو اعتبرنا الرأي الثاني صحيحا رغم اختلاف وتباين الآراء التي تشوب حوله إلآ أن الكتب التاريخية القديمة تسرد أراء المؤرخين الذين يثبتون بأن أصل الحاميين أو الكوشيين الشرقيين من منطقة الجزيرة العربية وحول المحيط الفارسي، ويعتبر الصوماليون أو بعضهم والعفر والأورميون والساهو السدامو من الكوشيين الشرقيين أيضاً، إلا أنهم قد تغيرت ألسنتهم وألوانهم وسلوكهم وعاداتهم بمرور الأزمان وتباين البيئات، وأصبحوا بذلك عرباً تأفرقوا، وظلوا جزءا من النسيج الاجتماعي الإفريقي، كل لغته وعاداته وتاريخه، – وهذا رأي البعض يميل إلى تعريب الخلائق، وتأصيل دعائم وأصالة العروبة فيها، حيث بؤرة ومنبع وجود البشرية كانت حول نهري دجل وفرات والأماكن المجاورة لهما. وكلها في سرة منطقة الجزيرة العربية، وهذا منطق ورأي وهناك آراء أخرى مخالفة لهذا المسار إلا أن المجال لا يسع لسرد جميعها.
ولكن مما لا شك فيه أن اللغة العربية بالنسبة للصوماليين وللمسلمين عموماً لغة العقيدة، ولغة الفكر والحضارة والتاريخ، ولغة الرسالة التي يحملونها في الحياة، وفوق كل ذلك هي لغة كتابهم المقدس الذي يتلونه صباح مساء، وهي بالنسبة إليهم ليست لغة قبيلة معينة أو شعب معين، ولكنها لغة الأمة والإسلام، مهما اختلفت لغاتهم وألوانهم وأوطانهم وأزمانهم.
وعلى هذا لم تعتمد الدعوة إلى الإسلام في إفريقيا على اللغات المحلية، بل كانت اللغة العربية دائماً، لأنها هي الوسيلة الوحيدة لتلاوة القرآن وتفسيره وفهمه، وللسنة المطهرة، وهي لغة العلماء في المجالس الدينية وحلقات العلم والذكر وهي لغة الأوراد والصلوات، وأصبحت لغة المعاملات اليومية لدى بعض الشعوب الإفريقية، بل ولغة التدوين والمراسلات والتوثيق قبل كتابة اللغات المحلية رسمياً([4] ).
ومن هنا جاء اهتمام الصوماليين باللغة العربية كوازع ديني يشترك فيه الجميع من علماء وعامة ورجال ونساء وكبار وصغار، في بيئة كلها تحتزم لغة القرآن، وبما أن بعض الناس لا يفرقون بين ما هو قرآن أو حديث، وما هو لغة عربية بحتة، فإنهم يحترمون كل ما هو عربي، وأحياناً تراهم يجمعون قطع الصحف العربية من المحلات التي لا تليق باللغة العربية، ويقومون إما بحرقها أو بوضعها في محل مناسب، وذلك مخافة أن تكون فيها آية من كتاب الله تعالى أو اسم من أسمائه، أو حديث نبوي شريف، أو أثر من الأثار، بل وبعضهم لمجرد احترام تكنّ نفوسهم للغة العربية فقط، وبغض النظر عن كونها أو فيها شئء من ذاك القبيل، وهكذا.
وعلى هذا الأساس تمكنت اللغة العربية من الانتشار في القطر الصومالي، وأصبحت لغة التعليم ولغة الدولة الرسمية قديماً، تسيّر بها الأعمال الإدارية والمحاكم، والمعاملات التجارية، وأجادها السكان، كما يشهد بذلك المؤرخون قديما وحديثا، وخاصة أولئك الذين شهدوا أن سكان بلاد الصومال وخاصة المناطق الساحلية كانوا يتكلمون باللغة المحلية إلى جانب اللغة العربية، وهكذا احتفظت اللغة العربية بهذا المركز حتى تعرضت البلاد لغزو استعماري، وكانت اللغة العربية اللغة الأصلية في البلاد، وترجع إلى عصر قديم لا يعلم وقته([5] ).
إن اللغة العربية أصبحت لغة صومالية، لأن الصومال لم تعرف طول تاريخها سوى اللغة العربية التي جاءت مع الإسلام، وهي منتشرة في أرجاء العالم منذ فترة طويلة في البدو والحضر، وبغض النظر عن وجود مجموعات من الشعب الصومالي لا يحسنون التكلم باللغة العربية، إلا أن ذلك لا ينفي كونها لغة رسمية للصومال، إن القرن الأفريقي الذي تسكنه القبائل الصومالية كان مرتبطاً بالأمة العربية بروابط دينية ولغوية وعرقية، وكانت اللغة العربية هي التي تستعمل في المعاملات المالية والاجتماعية ولم يطرأ أي تغيير في هذا الاتجاه حتى جاء الاستعمار الأوروبي الحديث فبذل مجهودات جبارة في تغيير الاتجاه.([6] )
إذا كانت صلات الصومال بالعروبة والإسلام قديمة ونامية، ففي القديم نزح إليه كثيرون من العرب الحضرميين واليمنيين أيضاً، وأقاموا فيه، وامتزجوا بأهله، ونشروا الإسلام واللغة العربية بينهم.
أخيراً ارتبط وضع اللغة العربية في الصومال بعلاقة الصومال بالعالم العربي، ومنذ عام 130م وقبله شهدت السواحل الصومالية هجرات عربية متتالية متوالية أدت إلى تأسيس بعض المدن في الساحل الصومالي، وقد نتج عن هذه الهجرات إلى أن يحتك أهل الصومال بهؤلاء المهاجرين من قريب وبعيد، وتعلم منهم الكثير من اللغة العربية، خاصة مهارات التواصل المباشر.
إن الترابط الوثيق بين الشعب الصومالي والأمة العربية الذي شمل جميع نواحي الحياة لم يترك مجالاً لأن تكون اللغة العربية في الصومال غريبة أو مفقودة بحال من الأحوال، بل ظلت ثابتة الوجود بالغة الأهمية في حياة الأمة الثقافية والسياسية بصفة عامة. ففي القديم توالت الهجرات العربية إلى المنطقة منذ انهيار سد مأرب كعامل تدعيم اللغة العربية، وعند مجئ الإسلام كما أسلفنا الحديث وضّح الدور الذي لعبه في انتشار اللغة العربية، وتقوية وجودها وإحداث ضرورة تعلم أي فرد شيئاً منها على الأقل بالقدر الذي يستطيع به تأدية واجباته الدينية، وذلك من خلال علومه ومصادره المعتمدة على اللغة العربية وشعائره التي يتم تأديتها أيضاً بالعربية، من الصلاة والآذان والدعاء وكذلك الأذكار وغيرها من العبادات والمعاملات.
إن المتتبع لتاريخ الشعب الصومالي، يجد أن اللغة العربية تضرب في أعماق تاريخه، وأن الثقافة العربية والتراث الإسلامي قد استوطنا في بلاد الصومال، فالعربية قد استخدمها الشعب الصومالي في الماضي وسيلة للمراسلة والمعاملات التجارية وتوثيق العقود، وتأكيد المواثيق وغير ذلك من المعاملات الدينية والدنيوية، وأنها كانت وسيلة لنشر العلوم الدينية بين أفراد المجتمع الصومالي، وهذا الأثر لا يزال محفوظاً وباقياً في المخطوطات الأثرية القديمة.([7])
إن الشعب الصومالي احتفظ باللغة العربية منذ القدم، وإن كل القرون لم تشهد أي تغيير، فالوثائق القديمة بين أمراء الصومال وبين إخوانهم في العالم الإسلامي والمخطوطات العديدة التي ألفت في مختلف الفنون والتي شملت اللغة العربية وآدابها والفقة وغير ذلك لهو دليل قاطع على ذلك، وعند ما جاء الاستعمار الصليبي اعتدى على الشعب الصومالي، كما اعتدى على غيره من الشعوب الإسلامية، فإن جميع الرسائل التي تبودلت بين زعماء الصومال في جميع المناطق وبين المستعمرين كانت مكتوبة باللغة العربية.
هذا وقد تعمقت اللغة العربية في نفوس الشعب الصومالي قديماً، ولم تكن المعاهد والمدارس من المدن تحتضن وحدها، وإنما البدو الرحل هم حفظة القرآن الكريم حيث يستظهر الطفل القرآن الكريم وعمره تسع سنوات أو عشر سنوات تقريباً، كما أن بعض هؤلاء البدو يتغنون بالأشعار العربية ويحفظون المتون من مضارب الإبل ومراعي البقر والغنم حتى نبغ منهم علماء فطاحلة في البادية والحضر على حد سواء.([8])
وهناك عوامل أخرى أساسية لعبت دوراً كبيراً بل وساعدت على انتشار اللغة العربية في ربوع الصومال منها: ……… نواصل في حلقتنا القادمة إن شاء الله.
الهـــوامــــــش:
[1] – تغريد السيد عنير، دراسة صوتية لظاهرة الاقتراض من العربية، أعمال الندوة الدولية، مطبعة جامعة القاهرة ، 1987م، جـ2 ، ص91.
[2] – صالح محمد علي، أصول اللغة الصومالية في العربية، ص1،2.
[3] – المرجع نفسه، ص 2 .
[4] – فوزي محمد بارو، تاريخ اللغة العربية في جمهورية الصومال، ط1، دار الوجوه للنشر والتوزيع، الرياض، 2019م، ص 43.
[5] – جامع عمر عيسي ، تاريخ الصومال في العصور الوسطى والحديثة ، بدون (ط) ، مطبعة الإمام ، القاهرة ، 1385هـ ــ 1965م ، ص7.
[6] – علي شيخ أحمد، الدعوة الإسلامية المعاصرة في القرن الأفريقي ، ط1 ، دار الأمية للنشر الرياض ، 1405هــ ، ص72.
[7] – محمود اسماعيل عبد الرحمن، “اللغة العربية كأداة للإعلام والتوعية في النضال الصومالي “، ندوة اللغة العربية في الصومال ،1986م، الوثيقة الثالثة، ص81.
[8] – علي شيخ أحمد ، الصومال وجذور المأساة الراهنة، ص ص 44، 45.