ليست مبالغة القول إن القرن الأفريقي – الذي يضم جيبوتي وإريتريا والصومال وإثيوبيا – بمثابة برميل بارود، يوشك أنّ ينفجر كلما ظهرت العوامل المحفزة لذلك. آخر تلك العوامل التي تحمل تهديداً كبيراً للاستقرار الهش في الإقليم، هو مذكرة التفاهم التي وقعتها إثيوبيا مع الإقليم الذي أعلن استقلاله من طرف واحد عام 1991 عن الدولة الصومالية، صوماليلاند.
بموجب المذكرة، تحصل إثيوبيا على مساحة 20 كيلومتراً مربعاً من الشواطئ التي تطل على خليج عدن على سبيل الإيجار لمدة 50 عاماً، قابلة للتمديد لبناء قواعد عسكرية وربما موانئ بحرية لاحقاً، مقابل اعتراف إثيوبيا بصوماليلاند كدولة مستقلة ومنحها حصة في شركة الاتصالات أو الطيران الإثيوبيتين، بحسب التفاصيل المعلنة من المذكرة التي لم يُنشر نصها الرسمي. فما هي تداعيات هذا الاتفاق على منطقة القرن الأفريقي؟ وما هو موقف مصر منه؟ وكيف قد يؤثر على دولة الصومال؟
الحلم الإثيوبي
مطلع كانون الثاني/ يناير 2024، وقّعت حكومتي إقليم صوماليلاند ودولة إثيوبيا على مذكرة تفاهم تمنح إثيوبيا منفذاً بحرياً مقابل الاعتراف بصوماليلاند (أرض الصومال) ومزايا مالية. اللافت أنّ التوقيع جاء بعد يومين من لقاء جمع الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود ورئيس إقليم صوماليلاند الانفصالي، موسى بيحي، في جيبوتي العاصمة، برعاية الرئيس الجيبوتي إسماعيل عمر جيلي، اتفقا فيه على “استئناف الحوار مع التركيز على القضايا المصيرية للوصول إلى حل دائم”.
بعد سقوط الدولة المركزية في الصومال عام 1991، أعلن إقليم صوماليلاند الاستقلال من طرف واحد، ومنذ ذلك الوقت يسعى ساسة الإقليم لنيل الاعتراف الدولي، دون أي تقدم يُذكر في هذا الإطار. وفي عام 2004، نالت الحكومة التي تشكلت في الصومال برعاية أممية ودولية وإقليمية الاعتراف الدولي كسلطة شرعية لكامل التراب الصومالي وفق حدود العام 1991 بما فيها صوماليلاند.
في المقابل، لم يتوقف سعي إثيوبيا لامتلاك منفذ بحري جديد، منذ خسارتها منفذها البحري باستقلال إريتريا عنها عقب الحرب التي استمرت بين عامي 1961 و1991، حيث تحوّلت ثاني أكبر دول القارة من حيث عدد السكان إلى دولة حبيسة تعتمد كلياً على الموانئ الجيبوتية كمنفذ بحري لحركة تجارتها الخارجية عبر الشحن البحري، ما يكلفها دفع ضرائب ورسوم باهظة. لذا، ظل امتلاك منفذ بحري بمثابة “حلم قومي” لأغلبية الشعب الإثيوبي، وجد طريقه إلى النور بتوقيع مذكرة التفاهم مع صوماليلاند، لكن أمام تحقيق ذلك تحديات تكاد تجعله مستحيلاً.
يقول الباحث الصومالي حسن شيخ علي إن وعود إثيوبيا بالاعتراف باستقلال صوماليلاند مجرد وهم يبيعه رئيس الوزراء آبي أحمد، مشيراً إلى أنّه حتى لو صدقت إثيوبيا فلن يغير ذلك شيئاً. يضيف الباحث لرصيف22: “موسى بيحي يريد من مذكرة التفاهم تحويل الأنظار في الداخل عن إخفاقاته العسكرية في إقليميّ سول وسناغ، وتسويق نفسه من جديد بدغدغة مشاعر سكان صوماليلاند الذين يتشاركون حلم نيل الاعتراف باستقلال إقليمهم”.
كان العام 2023 ثقيلاً على رئيس صوماليلاند، بيحي، إذ يواجه الإقليم المستقل من طرف واحد مشاكل سياسية داخلية كادت أنّ تتفاقم إلى اشتباكات أهلية مسلحة، إلى جانب الحدث الأكبر وهو هزيمة جيش صوماليلاند في منطقتي سول وسناغ بعد ثورة مسلحة قادها سكان المنطقتين، الذين يطالبون بالانفصال عن صوماليلاند والانضمام إلى دولة الصومال.
وبحسب المعلن من مذكرة التفاهم، لم تُحدد المنطقة التي سُتمنح كإيجار لإثيوبيا لمدة 50 عاماً، أو كيف سيكون طبيعة الإيجار. قال مستشار الأمن الوطني الإثيوبي، رضوان حسين، في لقاء تلفزيوني: “إثيوبيا لم تعترف حتى الآن بصوماليلاند. لكننا سنرى كيف سيتقدمون ثم نبدأ في تقييم مسألة الاعتراف في الوقت المناسب. وهذا مرهون بالحصول على قاعدة برية وبحرية لمدة 50 عاماً. وبعبارات عامة، فإن الاعتراف الموعود بصوماليلاند هو مجرد عمل قيد التقدم، فالمزيد من العمل ينبغي إنهاؤه”. حسين كشف عن المنطقة التي ترغب إثيوبيا في استئجارها وهي ” لوغهي” في محافظة أودال، شمالي صوماليلاند، التي تتشارك الحدود الدولية مع جيبوتي، وتطل على خليج عدن.
الرّد الصومالي
رداً على توقيع مذكرة التفاهم، خرجت تصريحات حازمة تدين التوقيع من كافة مستويات الحكم في الصومال؛ الرئاسة والحكومة والبرلمان الفيدرالي، واستدعت مقديشو سفيرها من أديس أبابا للتشاور.
كما خرجت مسيرات منددة بمذكرة التفاهم في العديد من المدن الصومالية وحتى داخل إقليم صوماليلاند. كما أعلن وزير دفاع صوماليلاند، عبد الغني محمود عاتيي، استقالته من منصبه احتجاجاً، وانتقد رئيس حزب “وطني” المعارض، المذكرة.
يقول صحافي من صوماليلاند، طلب عدم الكشف عن هويته، لرصيف 22: “فاجأنا موسى بيحي بالتوقيع. هذا الموضوع جاب لنا المرض، وأعتقد أن الناس هنا ستقاتل بعضها بعضاً بسبب الحدية بين المؤيد والمعارض للمذكرة”. يذكر المصدر نفسه أنّ “القبائل بدأت في جمع السلاح استعداداً لصد أي تواجد إثيوبي”، محذراً من “استغلال جماعات إسلامية للحدث في إيجاد موطن قدم لها في الإقليم وإعلانها الحرب ضد حكومته”. كذلك، يعتقد الصحافي بأنّ مذكرة التفاهم لن تصل إلى برلمان الإقليم ولن تمرّ.
يذكر أن حركة الشباب المصنفة “جماعة إرهابية” استغلت الأحداث ودعت عبر منصاتها الإعلامية لـما وصفته بـ”الجهاد” ضد حكومة صوماليلاند وإثيوبيا، كما نظمت وقفات للسكان في مناطق سيطرتها للتنديد بالمذكرة.
وتاريخياً، هناك عداوة بين الصوماليين والدولة الإثيوبية حيث خاض الطرفان حروباً ضد بعضهما البعض على مدار عقود. في القرن الماضي ضمت إثيوبيا إقليم الصومال الغربي (أوغادين) بالاتفاق مع بريطانيا، وبعد استقلال الصومال نشبت حرب أوغادين بين الصومال وإثيوبيا (عامي 1977 و1978) التي تدخلت فيها الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي ومصر وكوبا واليمن الجنوبي، وانتهت بهزيمة الصومال.
ويقول الباحث الصومالي علمي أحمد نور إن “حلم إثيوبيا بامتلاك منفذ بحري في أراضي الصومال قديم”، وأنه سبق أن تفاوضت أديس أبابا مع القوى الاستعمارية لنيل هذا المنفذ، مضيفاً لرصيف22 أنّ مطالبها هدأت حين ضمت إريتريا بعد استقلالها عن إيطاليا، ثم ظهر الحلم ثانية بعد فقدان هذا المنفذ باستقلال إريتريا عنها عام 1991.
في سياق الرد الصومالي، عقد الرئيس حسن شيخ اجتماعاً للمجلس الاستشاري الوطني (أعلى هيئة فيدرالية في البلاد) وأكد على إدانة ورفض المذكرة. كما أصدر البرلمان الفيدرالي بغرفتيه قراراً باعتبار “مذكرة التفاهم” باطلة ولاغية، وقعه رئيس الجمهورية.
من جانب صوماليلاند، زار رئيس الإقليم الانفصالي، بيحي، إثيوبيا ثانيةً بعد توقيع مذكرة التفاهم، لكن هذه المرة زار الإقليم الصومالي الغربي (أحد أقاليم دولة إثيوبيا الفيدرالية)، كما زار رئيس أركان جيش الإقليم اللواء نوح إسماعيل أديس أبابا، والتقى نظيره الإثيوبي برهانو جولا. وفقاً لبيان صادر عن وزارة الدفاع الإثيوبية، فإن اللقاء ناقش مجموعة من القضايا أبرزها التعاون العسكري بين إثيوبيا وأرض الصومال. أما في الداخل الإثيوبي، فقد خرجت مسيرات كبيرة مؤيدة لمذكرة التفاهم.
حشد الحلفاء
لم يقتصر ردّ الفعل على الصومال فقط، فوصول إثيوبيا إلى البحر الأحمر قضية إقليمية تنخرط فيها دول أبرزها مصر وإريتريا وجيبوتي وجميع دول البحر الأحمر. خلال العام الماضي، باتت مصر وجيبوتي وإريتريا أقرب وأكثر تنسيقاً في مواجهة إثيوبيا، بعد تحالف مرحلي جمع إريتريا وإثيوبيا ضد جبهة تحرير تيغراي، ولكل دولة مصالحها في تحجيم إثيوبيا.
تدرك الصومال ذلك، لهذا توجهت صوب تلك الدول. أجرى الرئيس حسن شيخ محمود اتصالاً هاتفياً بعد ساعات من توقيع مذكرة التفاهم بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وأكد الأخير على دعم مصر لسيادة ووحدة واستقرار الصومال. لاحقاً، أصدرت الخارجية المصرية بياناً شددت فيه على رفض أي مساس بسيادة دولة الصومال، باعتبار أنّ صوماليلاند جزءاً من دولة الصومال وفق القانون الدولي. بعدها بأيام زار وفد مصري رفيع المستوى العاصمة مقديشو، والتقى الرئيس الصومالي وسلّمه دعوة رسمية لزيارة مصر، ولم يُكشف بعد عن هوية وتكوين هذا الوفد.
لكن يمكن القول إنّ توقيع صوماليلاند وإثيوبيا مذكرة التفاهم قد يدفع الصومال إلى منح مصر حقّ إنشاء قاعدة بحرية، بمباركة شعبية، في ظل تنامي العلاقات بين الدولتين منذ تنصيب حسن شيخ محمود رئيساً في أيار/مايو 2022. بحسب وسائل إعلام صومالية ودولية تقوم مصر بتدريب ثلاثة آلاف جندي صومالي، ومن المتوقع تنامي وتسارع التعاون الأمني والعسكري بين البلدين.
كانت الخطوة التالية، قيام حسن شيخ بزيارة إلى إريتريا، التقى خلالها بالرئيس أسياس أفورقي. قال بيان الخارجية الإريترية عن الزيارة إن “الرئيسان اتفقا على العمل بقوة، من خلال التعاون الثنائي والتكاملي وفي إطار تكامل إقليمي أوسع، مع الصبر والروح البناءة مع الامتناع عن اتخاذ موقف رد الفعل تجاه مختلف الأجندات الاستفزازية”.
كما أصدرت خارجية جيبوتي بياناً، أكدت فيه – بصفتها رئيسة هيئة التنمية الحكومية الـ”إيغاد” التي تضم دول منها إثيوبيا والصومال وإريتريا – على دعمها بـ”قوة، حماية سيادة ووحدة واستقلال أراضي جميع الدول الأعضاء في المنظمة، الأمر الذي هو أساس القانون التأسيسي للاتحاد الأفريقي”. إلى جانب ذلك، شددت السودان والجامعة العربية والبرلمان العربي والاتحاد الأوروبي ومفوضية الاتحاد الأفريقي وتركيا وبريطانيا والدنمارك والعديد من الدول احترام استقلال وسيادة الصومال.
ويعتبر الموقف التركي مهماً، لوجود قاعدة عسكرية تركية وتعاون عسكري كبير بين أنقرة ومقديشو، ولهذا فمن المؤكد أنّ تركيا ستتخذ موقفاً قوياً داعماً لمقديشو، ومن المحتمل في ظل التقارب التركي المصري أنّ تتشاور الدولتان سوياً مع مقديشو في ذلك. كما أعربت الولايات المتحدة عن قلقها من توتر الأوضاع في القرن الأفريقي ودعت لحل الخلافات دبلوماسياً.
على الجانب الآخر، لم يتضح بعد موقف الإمارات التي تجمعها علاقات قوية بالرئيس حسن شيخ محمود وإقليم صوماليلاند ودولة إثيوبيا. فمن ناحية ستستفيد الإمارات من وصول حليفتها إثيوبيا إلى البحر الأحمر، لكنها ستتضرر إذا ما سعت إثيوبيا لبناء ميناء بحري تجاري. علماً أنه في 2018، وقعت شركة موانئ دبي العالمية وحكومتي صوماليلاند وإثيوبيا اتفاقية التزام تطوير وتشغيل ميناء “بربرة” الرئيسي في صوماليلاند، مع ربطه بالأراضي الإثيوبية، وتوزيع الأرباح بين الشركة والحكومتين. جدير بالذكر أنّ تلك الاتفاقية تعتبر “باطلة” وفق القانون الدولي والدستور الصومالي، وكانت وزارة النقل الصومالية أصدرت قراراً في 2018 باعتبارها “ملغاة وباطلة”.