“محدّش يجرّب مصر”… مضمون خطاب الرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي في مؤتمر صحافي مشترك مع نظيره الصومالي حسن شيخ محمود في القاهرة، في يناير/ كانون الثاني الماضي، ترند اجتاح منصّات الميديا الاجتماعية، فُسِّر بأنّه تحوّل استراتيجي في اهتمام القاهرة بمنطقة القرن الأفريقي، والصومال تحديداً، تحوّل يمكن أن يكون طبيعياً اتّساقاً مع المتغيّرات الطارئة في المنطقة، إثر توقيع حكومة رئيس وزراء إثيوبيا أبي أحمد مذكرةَ تفاهمٍ مع إقليم أرض الصومال، (غير المعترف به دولياً). مرّت تسعة أشهر منذ إطلاق السيسي هذا التهديد المُبطَّن نحو أيّ تحرّك إثيوبي لغزو مياه تُعَدُّ حقّاً صومالياً بامتياز، انطلاقاً من اتفاقية الدفاع العربي المشترك، التي تنص عليها جامعة الدول العربية، ما يعيد التساؤلات حول إمكانية أن يعوّل الصومال على مصر في حال استفحلت الأزمة الدبلوماسية بين مقديشو وأديس أبابا، مع توقيع الدولتين أخيراً اتفاق تعاون عسكري، بين وزيري دفاع البلدين، بحضور الرئيسين الصومالي والمصري (15 أغسطس/ آب الماضي)، فما هو دور مصر الجديد في المنطقة، في وقت تعاني فيه مشكلات مالية ومعيشية نتيجة ارتفاع الدين الخارجي (153 مليار دولار) بالإضافة إلى الأحداث الأمنية المشتعلة في جوارها، خاصّة في غزّة، بعد عملية طوفان الأقصى، والعدوان الإسرائيلي على القطاع، والحرب في السودان، والأوضاع المتلبّدة أخيراً في ليبيا، وهي كلّها مُؤشّرات تضعف مكانة مصر الإقليمية والعربية؟
تدرك مصر حجم المخاطر المترتّبة من التهديدات الأمنية التي تشهدها منطقة القرن الأفريقي، وتصاعد عمليات جماعة أنصار الله في اليمن ضدّ السفن الأجنبية، ما يُؤثّر سلباً على خطوط الإمداد والنقل البحري، وتعتبر القاهرة أولى المُتضررين من الاضطرابات الناجمة عن تغيّر حركة المرور بنسبة 10% من التجارة العالمية المنقولة بحراً، التي كانت تمرّ عبر قناة السويس. وما يزيد القلق لدى القاهرة هو إمكانية وصول إثيوبيا إلى البحر الأحمر، منافساً إقليمياً يُهدّد مصالحها الجيوسياسية وأمنها المائي، مع بدء إثيوبيا شهر يوليو/ تموز الفائت الملء الخامس لسدّ النهضة، المتوقّع أن ينتهي بحلول نهاية شهر سبتمبر/ أيلول المقبل، من دون أن تقدر مصر على إقناع أديس أبابا بوقف مساعيها المنفردة لهضم حقوق وحصص مصر والسودان المائية، سواء بالتفاوض الدبلوماسي أو اللجوء إلى الخيار العسكري، مع أنّ الخيار الثاني غير وارد في هذه المرحلة التي تعيش فيها القاهرة، في خضمّ أزمات داخلية، وأخرى تتصل بما يجري من حولها من براكين أزمات مشتعلة هنا وهناك.
اللافت أنّ ضوءاً من آخر النفق يلوح في صعيد العلاقات بين مقديشو والقاهرة، منذ إعادة انتخاب شيخ محمود رئيساً للصومال لولاية ثانية في مايو / أيّار 2022، لكنّ المسألة تبقى في كيفية توظيف هذه العلاقة من الجانبين، ومدى قدرة مصر في التموضع عسكرياً في المنطقة، علماً أنّ القاهرة ستتولى إدارة مجلس السلم والأمن للاتحاد الأفريقي أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، ووجود استعداد مصري للمشاركة في عملية قوّات حفظ السلام الأفريقية الجديدة، التي ستتولى الأمن والحماية للقواعد العسكرية التي ستخليها البعثة الأفريقية الانتقالية الحالية مع حلول عام 2025، ووجود تأكيد مصري لهذا العرض، حيث ألمح الرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي، في آخر لقاء له مع شيخ محمود في القاهرة (15 أغسطس/ آب)، إلى رغبة مصرية جادّة للمشاركة في هذه العملية، إذا سمحت الصومال بانضمام الجنود المصريين إلى عملية حفظ السلام الأفريقية التي ستتألف من 12 ألف جندي أفريقي، هذه الخطوة المصرية لتحريك المياه الراكدة في بركة علاقاتها المتجمّدة مع الصومال، بعثت القلقَ ورسائلَ غير مطمئنة إلى أديس أبابا، ما يعكس فشل استراتيجية أبي أحمد في علاقاته الخارجية مع دول الجوار، مع انهيار الاتفاق الثلاثي بين مقديشو وأديس أبابا وإريتريا، الذي وقعته الدول الثلاث عام 2018 في أسمرة، ويمنح القاهرةَ راهناً فرصةً لتطويق أديس أبابا من جوارها، وليّ أذرعها، والحدّ من تصاعد نفوذها في منطقة القرن الأفريقي.
لا تحتاج الصومال في هذه المرحلة الحرجة، التي تخوض فيها الحكومة الفيدرالية معركةَ كسر عظم ضدّ حركة الشباب الموالية لتنظيم القاعدة، إلى مُجرَّد إرسال بعثاتٍ تعليميةٍ مصرية أو علاقات ثقافية ودبلوماسية لا ترقى إلى المستوى المطلوب، بل إنّ الشغل الشاغل في اهتمامات الحكومة الفيدرالية ينصبّ حالياً على الهاجس الأمني، وعلى دعم المؤسسة العسكرية تقنياً ولوجستياً، فإذا أرادت مصر أن توثّق علاقاتها مع مقديشو، فعليها التركيز في تعزيز قدرات الجيش الصومالي، وفي تكثيف التدريبات العسكرية لمنتسبي المنظومة الأمنية، وفي التعاون الأمني والاستخباراتي مع الأجهزة الأمنية، وألا تكون الوعود المصرية لدعم المؤسّسة العسكرية في الصومال تحت رهن بيروقراطية النظام المصري، التي ستعيق تحقيق تقدّمٍ ملموسٍ في صعيد التعاون العسكري والأمني بين الجانبَين، فغياب الأمن في الصومال لم يُؤثّر على تماسكه الداخلي فحسب، بل أيضاً تسبّب في تراجع علاقاته الخارجية مع محيطه العربي والأفريقي، خاصّة مع مصر التي كان لها دور مُشرِّف وتأثير قوي في السياسة الصومالية قبل سقوط الدولة المركزية مطلع التسعينيّات من القرن الماضي، وهي العلاقة التي انتقلت من المركز إلى الهامش، ويُعَدُّ محور الأمن كلمة المرور لعودة النفوذ المصري إلى منطقة القرن الأفريقي، فإلى أيّ مدى يمكن أن تنجح القاهرة في ضبط عقارب الساعة من جديد، وتعيد ترتيب أوراقها نحو منطقة متخمة بالتنافس الدولي منذ الألفية الجديدة؟
التعاون الاقتصادي يُعَدُّ أيضاً مفتاحاً لروابط اقتصادية متينة بين مقديشو والقاهرة، التي تشهد حالياً نموّاً طفيفاً في التعاون التجاري بينهما، إذ قفز التبادل التجاري بين البلدين فجأة عام 2023 إلى نحو 54 مليون دولار، ويأمل كثيرون من الصوماليين، بعد تدشين مصر للطيران أولى رحلاتها نحو الصومال للمرّة الأولى بعد اندلاع الحرب الأهلية، وبدء عملية تشغيل بنك مصر في مقديشو، وعودة السفارة المصرية إلى العاصمة، أن يُرفَع سقف التبادل التجاري بين البلدَين، كما يمكن أن تفتح هذه العلاقة وجهةً جديدةً للتجار الصوماليين نحو القاهرة، كما شدَّوا الرحال سابقاً نحو أنقرة بعد عام 2011، وتُعَدُّ الجالية الصومالية في القاهرة (تقدّر بنحو 20 ألف شخص) المحرك الرئيس في دفع حركة الاستثمار والتنقّلات بين القاهرة ومقديشو، ويستورد الصومال جُل احتياجاته من السلع الاستهلاكية من الخارج، خاصّة الصين والهند وتركيا، وتحتاج عملية التحوّل إلى القاهرة للاستيراد من قبل التجّار الصوماليين جهوداً كبيرةً، والتنسيق بين الحكومتَين لتشجيع حركة التبادل التجاري، تمهيداً لتوفير أرضية صلبة للعلاقات الاقتصادية والتعاون الأمني والدبلوماسي بين مقديشو والقاهرة مستقبلاً.
سابقاً، كان للدبلوماسية المصرية دورٌ كبيرٌ في إمساك زمام المبادرات والوساطة في العمق الأفريقي، عبر استراتيجية احتواء النزاعات والمساهمة في جهود تحقيق السلم والأمن، إلى جانب دعم حركات التحرّر والدول الأفريقية للانعتاق من ربقة المُستعمِر في ستينيّات القرن الماضي، لكنّ محاولاتها في الصومال في الوساطة بين الجبهات الصومالية المسلّحة، منذ التسعينيّات (1998) لم تحقق اختراقاً كبيراً، بل فشلت في احتواء المواقف وحشد الجهود لدفع الأطراف نحو طاولة مفاوضات حاسمة، وعلى وقع أنغام هذا الفشل تراجع الدور المصري لحلّ نزاعات الفرقاء في البلاد، فهل يمكن أن تلعب القاهرة دورَ الوساطة في الصومال، لحلّ أزماته الطويلة، تحديداً بين الحكومة الفيدرالية وإقليم أرض الصومال؟ وهل تملك آليات دبلوماسية للعب دور في التوسّط بين الحكومة الصومالية وحركة الشباب، برغم انعدام مُؤشّرات أيّ تقارب فكري وأيديولوجي بين الجانبين؟
يرى بعضهم أنّ مسار أيّ تفاوض ترعاه القاهرة سيكون محكوماً بالإعدام والفشل قبل أن يرى النور، إذ لم تحقّق جهودها لحلّ الأزمة بين الأطراف السودانية أخيراً، وكذلك الأزمة الليبية التي ابتعدت القاهرة عنها كثيراً في تفكيك ملفّاتها المُعقَّدة داخلياً، بحكم انكفائها في أزماتها الداخلية، والغرق في معضلات اجتماعية واقتصادية داخلية تستحوذ على صلب اهتمام دوائر صنع القرار في القاهرة، ولهذا فإنّ أيّ وساطة مصرية لحلّ الأزمة الصومالية تسبقها خطوات فعّالة لبناء جدار الثقة أولاً مع الجانب الصومالي، وتشكيل تحالفات إقليمية تصبّ في مصالحها في المنطقة، ومواجهة خصومها على نحو جدّي، وعدم المراوغة وبعيداً عن سياسة الترقّب والمتابعة في دخول شراكات حقيقية مع دول المنطقة، ربّما يمكن بعد ذلك كلّه أن تلقى الكلمة المصرية آذاناً مصغيةً في تجنيب المنطقة أزمات وحروب إقليمية جديدة.
اللافت أن الصومال يحمل اليوم مصيراً مشتركاً مع مصر في مواجهة المخطّطات الإثيوبية للوصول إلى منفذ بحري في البحر الأحمر، وكذلك أزمة المياه التي يمكن أن توظّفها أديس أبابا ورقةَ ضغطٍ على الصومال ومصر في آن واحد، لتحقيق أجنداتها ومصالحها، بحكم أنّ استكمال الملء الخامس (والأخير) لسدّ النهضة يُشكّل ضرراً كبيراً في حصّة مصر المائية، وهذا ليس خافياً على المسؤولين المصريين، قبل السواد الأعظم من المزارعين في صعيد مصر، كذلك في حال أقدمت إثيوبيا على بناء سدود صغيرة في المرتفعات الجبلية التي ينبع منها نهر شبيلي، أطول نهر في الصومال، يمثل أيضاً كارثةً بيئيةً زراعيةً جديدةً تحوّل مساحاتٍ شاسعةً من الأراضي الزراعية أرضٍ قاحلةً، ما يضعف قدرة كلّ من القاهرة ومقديشو على الصمود أكثر أمام مخاطر تراجع الانتاج الزراعي سيّما في مصر، لكنّ ارتدادات عكسية نتيجة السياسات المائية الإثيوبية الأحادية الجانب تجاه الدولتَين ستكون كبيرة، وهو ما يُؤدّي إلى انهيار العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية على نحو كامل في نهاية المطاف، ويزيد الضغوط على حكومة أبي أحمد من المنظّمات الأفريقية والدولية.
أخيراً، تبدو الصومال راهناً ساحةً لتصفية الحسابات الجيوسياسية بين مصر وإثيوبيا، بعد عقد من التوتّرات بينهما، خاصّة عقب بدء مشروع سدّ النهضة عام 2012، نتيجة سياسات حكومة أبي أحمد السريعة كقطار بلا مكابح في المنطقة، والتي أدّت إلى نزاعات عسكرية في إثيوبيا (حرب إقليم تيغراي 2020) لم تندمل جروحها بعد، ومخاوفَ جديدةٍ من حدوث أزمة أمنية عسكرية مع الصومال، إذا باشرت حكومته في عملية نشر الأسطول الإثيوبي في المياه الصومالية من دون اتفاق رسمي مع الحكومة المركزية في مقديشو، ما سيُؤدّي إلى تفجير المنطقة أمنياً، لتتحوّل ساحات المعارك من الجنوب الصومالي إلى إقليم أرض الصومال، لتكون منطقةً ملتهبة بين أطراف محلّية وأخرى خارجية، ستغذّي هذا الصراع حتماً، ما يُؤثّر سلباً في استقرار أرض الصومال، التي عرفت طعم الهدوء الأمني في محيط مضطرب أمنياً منذ نحو ثلاثة عقود.
ولاستباق أي خطر أمني إقليمي يُهدّد أمن الصومال من الداخل وجواره، يعوّل الصومال على وقفة مصرية للمساهمة في بناء الجيش الصومالي، والدفاع عنه تنفيذاً للاتفاقات العسكرية المُوقّعة بين الجانبَين، لكن هل يمكن أن تقدّم مصر المُكبّلة بسلاسل ظروفها الداخلية والإقليمية الدعمَ للصومال لحماية مصالحها المائية والجيوسياسية، أولاً وقبل كلّ شيء، في منطقة القرن الأفريقي؟