تواجد الأحباش في الجزيرة العربية
كثرة احتكاك المجتمعات بين منطقة القرن الإفريقي والجزيرة العربية أدى إلى تواجد مجموعات الأحباش والنوبيين في منطقة الحجاز وغيرها في وقت مبكر، وكذلك انتشار جاليات عربية مهاجرة في الساحل الإفريقي الشرقي ، ونتيجة لهذا الاحتكاك والاتصال المستمر أثّر ذلك على جوانب عديدة من الحياة بما في ذلك اللغة ، حيث تعلّم بعض العرب لغات المهاجرين من الأحباش والنوبيين المتواجدين في الحجاز، وقد أشارت بعض المصادر إلى أنّ عدداً من صحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تعلموا بعضاً من تلك اللغات، مما يدل على انتشار هذه اللغات في الحجاز؛ و لم يكُن من الصعب إيجاد مترجم يترجم بين هذه اللغات واللغة العربية ،كما كان يفعل زيد بن ثابت الأنصاري الخزرجيّ – رضي الله عنه- من بني غنم بن مالك بن النجّار، وحنظلة بن الربيع بن صيفي التميمي الأسدي، فقد كانا يترجمان للنبي -صلى الله عليه وسلم- بالفارسية، والرومية، والقبطية، والحبشية، وقد تعلّماها من أهلها بالمدينة، ويضيف المسعودي إلى ذلك أنّ الحنظلة كان يكتب بين بدي النبيّ – صلى الله عليه وسلم- إذا غاب زيد بن ثابت وينوب عنه([1]).
ويتضح مما سبق أنّ علاقة شبه الجزيرة العربية – وخاصة بلاد اليمن – بمنطقة القرن الإفريقي قديمة، وتمتدّ إلى ما قبل الميلاد، ولا يعرف بالتحديد متى بدأت – كما أشرنا من قبل – ولكن هذه العلاقة لم تكن على وتيرة واحدة، وإن كانت في أغلبها تتسم بالهدوء والوئام، مع تعرضها أحياناً لبعض التوتر والاصطدام، إذا استثنينا حدث الاحتلال الحبشي لليمن عند ما تحركت جيوش من دولة الأكسوم نحو اليمن واحتلوا جزءا كبيراً منها في أيام ذي نواس اليهودي صاحب الأخدود المذكور في القرآن الكريم، وذلك نصرة للمؤمنين هناك، وتلبية لطلب الامبراطور الروماني الذي طلب من نظيره النجاشي الحبشي إغاثة المسيحيين في منطقة نجران الواقعين تحت وطأة ذي نواس، فعبر الأحباش البحر ومكثوا هناك قرابة 75 سنة.
وأشارت بعض المصادر إلى وجود جاليات إفريقية وغيرها في بعض المناطق بالحجاز في تلك العصور القديمة، ولا أدل من الخبر الذي يفيد بأنّ قريشا استعانت بنجار قبطي أثناء إعادتها بناء الكعبة المشرفة قبل البعثة، مّما يدل على العلاقة بين أهل الحجاز وسكان أجزاء من القارة الإفريقية وخاصّة الشعوب في جنوب مصر وبلاد النوبة والسودان الشرقي([2]).
تَسَمَّو بألقاب الأحباش
استخدم بعض العرب على ألقاب مشهورة في بلاد الحبشة كلقب النجاشي، مما يدل على مدى العلاقة بين الطرفين في عصر ما قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم. ومن هؤلاء:
الشاعر قيس بن عمرو بن مالك من بني الحارث بن كعب، يكنى أبا الحرث وأبا محاسن وقيل اسمه سمعان، وكان يطلق عليه بلقب النجاشي، وقد علل ابن حجر العسقلاني وغيره سبب تسميته بالنجاشي لأنّ لونه كان يشبه بلون الحبشة، ولا غرابة في ذلك لأنّه يروى أن جماعة من بني الحارث بن كعب وفدت على النبي صلى الله عليه وسلم لتسلم فكان مما لفته عليه السلام إليهم ضخامة أجسامهم ، وسواد لونهم، ويبدوا أنهم أصهروا إلى كثير من الأحباش المقيمين في اليمن. ومهما كان الأمر فإنّ قيس بن عمرو المعروف بالنجاشي أسلم مع من أسلم من قومه في اليمن. كما أنّه رضي الله عنه وفد على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وكذلك لازم علي بن أبي طالب حيث كان معه في حروبه يناضل عند أهل الشام ، غير أنّه بعض فترة انضم إلى معسكر معاوية بن أبي سفيان في الشام بعد أن جلد علي بن أبي طالب في الخمر. وقد عمر النجاشي هذا طويلا، وكان له أخ يسمى خديج. [3]
وممن حمل اللقب ” النجاشي” صبيح بن سعيد النجاشي البغدادي، كان ينزل الخلد ببغداد حتى كان يطلق عليه الخلدي، وكان يزعم أنه مولى عائشة، وروى عَن عثمان بن عفان وعائشة رضوان الله عليهم ، وروى عنه العراقيون ، غير أنّه قيل عنه بأنّه يروى عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس من أحاديثهم. وممن قال ذلك يحيى بن معين حيث قال: يقول هو كذّاب. وروى عن عائشة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنّه صلى على قتلى أحد وكبر عليها أربع تكبيرات. وروى أيضاً َعَنْ عَائِشَةَ أنّها قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا خَرَجَ ثَلاثَةَ أَمْيَالٍ مِنَ الْمَدِينَةِ يُرِيدُ السَّفَرَ قَصَرَ الصَّلاةَ وَأَفْطَرَ.
وَعَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلامُ قَالَ مَنْ شَرِبَ نَبِيذًا فَاقْشَعَرَّ مِنْهُ فَالْحَسْوَةُ مِنْهُ حَرَامٌ. وكان غَسَّانُ بْنُ فضل السِّجْزِيُّ يروي عن صبيح ويقول: حَدَّثَنَا صُبَيْحٌ بِهَا كلهَا. وقد أورد ابن حبان في كتابه المجروحين. روى عنه العراقيون. وقيل أنّه يروي عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس من حديثهم.
إذاً ما يرويه صبيح من الأحاديث عن الصحابة ولا سيما عثمان بن عفان وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنهم ليس بقوي، بل هو مردود، وفي ذلك قال يحيى وَأَبُو خثيمَةَ كَانَ ينزل – أي صبيح بن سعيد النجاشي- الْخلد – كما سبق – وَكَانَ كذابا خبيثا وَقَالَ أَبُو دَاوُد لَيْسَ بِشَيْء. الجدير بالذكر بأنّ منطقة الخلد نسب إليها كوكبة من أهل العلم مثل: جعفر بن محمد بن نصير بن القاسم الخواص الخلدي أبو محمد أحد المشايخ الصوفية، صاحب الأحوال والمجاهدات والكرامات الظاهرة، صحب الجنيد بن محمد. [4]
ومن غرائبه أنّه حدث سنة ثمانين ومائة وزعم أنه بلغ اثنتين وخمسين ومائة سنة ، وقيل ستاً وخمسين ومائة قال: سمعت أمي أنها كانت اسمها عنبة، فسماها رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم عنقودة. أخرجها أبو نعيم وأبو موسى.
[1](المسعودي، أبو الحسن علي بن الحسين بن علي (ت 346هـ): التنبيه والإشراف، وطبع في مدينة، بمطبعة بريل، عام 1893م، توزيع دار الصادر في بيروت – لبنان ، ص 283.
[2]) ابن هشام: السيرة تحقيق مصطفى عبد الستار وآخرون ، مطبعة الحلبي ، مصر 1355ه/1936م،1/ 205 وانظر عبد المنعم، عبد الحليم سيد: البحر الأحمر وظهيره، مرجع سابق، ص 13
[3] – ابن حجر، شهاب الدين أبي الفضل أحمد بن علي العسقلاني: الإصابة في تمييز الصحابة، دار الكتب العلمية، بيروت، 1853م ، 6/ 263 – 264؛ ابن قتيبة، أبو محمد عبد الله بن عبد المجيد الدينوري: الشعر والشعراء، تحقيق وشرح أحمد محمد شاكر، دار المعارف، القاهرة، 1/329 – 333؛ وانظر: وانظر الدكتور عبده بدوي: الشعراء السود وخصائصهم في الشعر العربي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط/1، عام 1988م، القاهرة ، ص 101.
[4] – ابن الجوزي، أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي ( 597هـ): الضعفاء والمتروكين ، تحقيق عبد الله القاضي ، دار الكتب العلمية، بيروت، ط/2، 1406هـ، 2/ 52 ظ 53؛ وانظر السمعاني: الأنساب، 2/ 389-390.