أولاً: علاقة الصومال بالعالم العربي
ارتبط الصومال بالعالم العربي منذ القدم بعلاقات متنوعة تمس جوانب متعددة منها علاقته الجغرافية والتجارية والتاريخية، والثقافية والدينية والسياسية وغيرها. وقد بلغت بعض العلاقات ذروتها بل وقمة في التعامل والتفاهم بين الشعبين بناء على المصالح المشركة، مثل العلاقة التجارية أو الاقتصادية عموماً لأنها مرتبطة ومنبثقة عن رغبة واحتياجات كل من الشعبين، ويمكن اعتبار التبادل التجاري أولى العلاقات وصميمها نظراً لطبيعة تاريخ الشعبين تجارياً.
وهناك عوامل مادية وأخرى معنوية ساعدت على قيام هذه العلاقة والتي جعلت سكان الجزيرة العربية يهجرون إلى الساحل الغربي للبحر الأحمر بحثاً عن حياة أفضل، ولذلك تتابعت الهجرات البشرية من الساحل الشرقي للبحر الأحمر إلى ساحله الغربي منه، وبسبب هذه الهجرات اشتدّ الترابط بين سكان الجانبين كانت تشملهم أحياناً نظم الحكم، فيخضعون لدولة واحدة كدولة حمير منذ ألف عام قبل الميلاد.([1]) . ولعل ثمّة أسئلة قد تطرأ في بال القارئ متى كانت بداية هذه العلاقة بينهما؟ وكيف بدأت؟ وما العوامل الرئيسة التي ساعدت على تطورها وازدهارها؟ إلّا أنها من خلال طرحنا للموضوع سوف يتضح بعض حيثيات هذه الفكرة، ويتبلور أهم مرتكزاتها، ومع هذا كله أريد أن أؤكد لقارئنا العزيز أنه قد يستحيل أو يصعب تحديد يوم معلوم ومحدد لدى المؤرخين قديما وحديثاً يعرف بأنه بدايةٌ وانطلاقةٌ لعلاقة الجانبين، حيث إن طبيعة تكوين العلاقات بين الشعوب من حين لآخر تختلف عن إنشاء مؤسسة أو توقيع اتفاقيات الذي له بدايات وحيثيات معلومة، وعلى الصعيد نفسه يمكن أن تكون نشأة تلك العلاقة امتدادا لعلاقات فردية أو أفراد تجمعهم مصالح مشتركة، ثم تطورت هذه العلاقة إلى أن تَشَّكل في مضمونها وشائج بل ومصالح مشتركة بين الشعبين. مهما يكن من أمر فإنه لا بد من عوامل وظروف مادية أو معنوية لعبت دوراً في نشأة هذه الصلات، ومن أهم العوامل المساعدة لتوطيد العلاقات بين الشعبين الشقيقين موقع الصومال الإستراتيحي.
تشير الدراسات إلى أن الموقع الجغرافي للصومال قد أنشأ صلة وطيدة بينها وبين عرب شبه الجزيرة العربية، حيث تقع الصومال في الساحل الغربي للبحر الأحمر الفاصل بين قرن إفريقيا والجزيرة العربية، وكان سكان المنطقتين يعبر إلى الجانب الآخر حسب الحوجة، بل وكان هناك تعايشا اجتماعيا واحتكاكا تاماً بين الشعبين، وأن بداية هذه الصلة بلا شك ترجع إلى تاريخ قديم وذلك بسبب التجارة، ومن ثم توطدت هذه الصلة بعد ظهور الإسلام واعتناق سكان الصومال له، وحرصهم على فهمه عن طريق تعلم لغته،([2]) وعليه حظيت اللغة العربية باحترام كبير من جانب الصوماليين.
ومن جانب آخر يرى بعض المؤرخين أن القبائل الصومالية نزحت من الجزيرة العربية على فترات متباعدة، منذ الألف الرابع والخامس قبل الميلاد. معنى هذا أنهم كانوا أصلا من شعوب شبه جزيرة العرب، ولظروف ما جعلتهم مهاجرين ونازحين، وهم جزأ من ذاك الأصل وليس في الأمر جديد.([3]) ولا شك أن لهذا الرأي مؤيدين ومعارضين، وله صله بالجدل القائم في أصل نسب وسلالة الصوماليين.
وعلى ذات الصعيد تؤكد البحوث التاريخية الحديثة أن السبئيين- وهم عرب شبه الجزيرة العربية – قد استوطنوا في مناطق عديدة من الساحل الشرقي لإفريقيا، وأن السبئيين لم يكونوا منعزلين، بل اختلطوا بأهل الساحل، وتزوجوا منهم، وأقاموا محطات تجارية واسعة تربط موطنهم الجديد بجذور موطنهم الأصلي القديم(.[4])
ويذكر المؤرخون أيضاً أن هناك صلات قوية كانت تربط الصومال بأشقائه العرب، وكان يرجع ذلك إلى ما قبل ظهور الإسلام في الجزيرة العربية بعدة قرون، عند ما كان الصومال جزءاً من إمبراطورية تجارية عربية كبيرة تضم جنوب شبة الجزيرة العربية وساحل خليج عدن، وكان الصومال يساهم في نشاط هذه الأمبراطورية بمنتجاته التي اشتهرت بها بلاده منذ الزمان وأهمها: اللبان والبخور والعاج المتميزة عن غيرها في المنطقة.([5])
وأن الصلات والعلاقات بين الشعب الصومال والشعوب القاطنة في الجزيرة العربية من الناحية الثقافية والعلمية أو الدينية كانت واضحة، حيث أن أولى هجرة إسلامية دخلت الساحل الشرقي لإفريقيا، كانت في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، عند ما خرج الصحابة جعفر بن أبي طالب وغيره من الصحابة من مكة إلى الحبشة، فراراً من اضطهاد قريش ودخلوا من باب المندب، واستقروا هناك، وبهذا اعتنق الصومال العقيدة الإسلامية كما تقول بعض الروايات([6]). رغم اختلاف المؤرخين حول طبيعة الأرض أو المكان الذي وصل إليه هؤلاء المهاجرون بقيادة الصحابي الجليل جعفر – إلا أن المتفق عليه عندهم كانت في شرق القارة الإفريقية وفي منطقة القرن الإفريقي الواقعة فيها جمهورية الصومال.
تعتبر هذه الهجرة أو الزيارة لبنة أساسية لتسجيل بداية العلاقات الثقافية والدينية بين الشعبين، طالما أن جزيرة العرب منبع الوحي ومنطلق الدين الإسلامي بل ومهبط دعاة هذا الدين وحاملي رسالته السامية إلى العالم أجمع وإلى الناس كافة.
هذا فإن العلاقات الثقافية والتبادل العلمي بين الشعبين وصلت ذروتها حينما انتشر الإسلام في جميع مدن الساحل الصومالي ومنطقة القرن الإفريقي، احتاج الناس لمعرفة تعاليم دينهم الحنيف الذي اعتنقوه طوعاً بواسطة الدعاة والتجار العرب الذين كانوا دوماً يلجئون إلى المنطقة لأغراض متنوعة، فكانت هناك رغبة في زيادة العلم والمعرفة، دفعت هذه الرغبة طلاب العلم والعلماء إلى رحلات علمية في المنقطة العربية ينهلون من مصادر المعرفة الدينية الصافية حيث مدارسها ومعاهدها وجامعاتها العريقة والعملاقة، التي حفلت بعلماء وفقهاء أجلاء من الثقات.([7])
وبعد تلك الهجرة التاريخية واصلت الأفواج المهاجرة المتتابعة رحلاتها إلى الساحل الصومالي للتجارة ونشر الدين الإسلامي، وترسيخ دعائم اللغة العربية في أوساط مجتمعات هذه المناطق عموماً. وبهذا الخط توطدت العلاقات البينية أكثر فأكثر، وتعددت مجالاتها بل وتعمقت في جوانب الحياة المختلفة حيث تمثّل بعض الهجرات في أسر بأكملها وقبائل متعددة. وعليه أصبحت المدن الساحلية الصومالية محطات تجارية، ومراكز علمية ترسوا بها السفن التي تحمل هؤلاء المهاجرين إلى أكبر سوق في شرق إفريقيا وخاصة مدينتي مقديشو وزيلع. فكانت هذه المدن الشهيرة مقصد المهاجرين المسلمين وملجأهم الأول سواء أكانوا من التجار أم الدعاة أم الفارين من بطش واضطهاد السلطات أو الأمراء.([8])
وتعتبر العلاقة الاقتصادية والتجارية من أهم العلاقات بين الشعبين عبر التاريخ حيث كانت الأساطيل البحرية التجارية تنشط في نقل البضائع وحملها بين الصومال وبقية الأقطار العربية في مصر والشام وغيرهما فترسوا السفن التجارية في مرافئ المدن الصومالية لتفرغ ما عليها من بضائع، فتشحن ما تريد جلبه من السلع التي كان تجار العرب ينقلونها من الصومال ليعرضوها في الأسواق العربية أو إلى الأسواق العالمية في آسيا وأوروبا.([9])
ومن الاتصالات التي جرت بين الصومال والجزيرة العربية زيارات الأماكن المقدسة مثل مكة المكرمة والمدينة المنورة، فقد كان عدد كبير من الصوماليين يسافرون إلى أرض الحجاز بقصد أداء فريضة الحج أو العمرة الذي فيه من شعائر الله، فيتخلف كثير منهم فيها، للدراسة وطلب العلم الشرعي، حيث يدرسون فيها اللغة العربية والعلوم الإسلامية، ثم يرجعون إلى وطنهم وهم علماء تخصصوا في فنّ من فنون اللغة العربية أو الشريعة الإسلامية ثم ينشرونها في بلدهم، وتتلمذ عليهم كثير من الشباب الصوماليين الذين قاموا أيضاً بدورهم في نشر هذه العلوم، وهكذا سارت الأمور جيلاً بعد جيل. وأصبحت زيارة الأماكن المقدسة تلعب دوراً مهماً في توطيد وتخليد العلاقات العلمية والثقافية بين الشعبين، ومنها نشر هذه إلعلوم إلى أعماق القارة الإفريقية.([10])
هذا وقد تطورت تلك العلاقة واتسعت دائرتها مؤخراً بالذات عند ما أصبح الشعب الصومالي جزءا فعالأ في الكيانات السياسية والاجتماعية والثقافية القائمة بين الشعوب العربية، وأصبحت العلاقة أيضاً شاملة لكل جوانب الحياة المختلفة، ومتعددة الأشكال والألوان، والأثر العربي في كل ناحية من هذه النواحي واضح، وفي ظل هذه الكيانات أتاحت الفرص توافد عدد كبير من طلبة العلم الصوماليين إلى الأقطار العربية حيث بدأوا ينخرطوا وينضمون إلى دوائر التعليم النظامي والأهلي فيها من المدارس والمعاهد والجامعات لتعليم اللغة العربية والعلوم الإسلامية وحتى العلوم المادية المختلفة، ومن أهم تلك الأقطار العربية التي توافد إليها الطلبة الصوماليون من مختلف مقاماتهم جمهورية السودان الشقيقة وجمهورية مصر العربية، والمملكة العربية السعودية، واليمن وسوريا والعراق قطر وغيرها من البلاد العربية.
هذا لو نظرنا إلى طبيعة التجارة أو اللغة أو التقاليد أو الفنون أو الديانة، وعموماً مضمون الثقافة نجد أثراً وتشابهاً منبثقين عن التعايش الطويل بين شعوب المنطقة، بل وأثر أولئك الخريجين الذين نهلوا العلم من مشارب الأصقاع العربية ومجالس علمائها الأفذاذ باق واضح في الدوائر التعليمية في الصومال العامة والخاصة فيها.
الصومال واحدة من الدول العربية بل وكانت عضواً فعّالاً فيها، وقد رحّب الشعب بقرار انضمام الصومال إلى جامعة الدول العربية ترحيباً حاراً أملاً لاستكمال الوحدة، بل وتطلعاً إلى مساعدة كبيرة من الدول العربية لكي يحافظ على هويته الثقافية وذلك في عام 1974م([11]). وقد إزدادت الصلات الثقافية والسياسية والاجتماعية بين الصومال وشعوب الأقطار العربية انتعاشاً كبيراً وملموساً، وعقب ذلك إبرام توقيع اتفاقيات بينية في المجالات كافة، وتدشين تعاون مشترك بينهما، وبذلت الحكومة المركزية الصومالية آنذاك مجهودات في تنفيذها تنمية وتطويراً لتحقيق الوحدة الشاملة التي طالما تطلّع إليها الصومال.
وكل هذا أو ذاك يثبت ويشير إلى أن الصومال كان ولا يزال جزءاً لا يتجزأ من العالم العربي من حيث نسيجه الاجتماعي، حضارياً وسياسياً وثقافياً وإستراتيجياً، فالعروبة عندهم ليست لون بشرة، وإنما هي انتماء وشعور قومي، وارتباط عاطفي ومصالح مشتركة. والشعب الصومال لم يشعر في أي وقت من تاريخه أنه خارج من نطاق المجموعة البشرية التي تعيش في الوطن العربي، رغم الظروف والحروب الأهلية التي بددت آمال شعبه في الآونة الأخير، وبعد انهيار الحكم المركزي فيه، وقد قوّض ذلك ظهر كيانها ومقوماتها الثقافية والسياسية إلا أن إحساسه للقضية ما زال حاضراً وقوياً، وأن الأمة العربية والإسلامية هبّت لنصرة الشعب الصومالي المنكوب أيام نكبته، وما زالت تقدم للصومال مساعدات مادية وأخرى معنوية في المجالات كافة، حتى تستعيد عافيتها بل ودورها الحيوي في الأورقة والأصعدة الإقليمية والدولية، والحمد لله قد استعادت بل وستستعيد هيبتها ومكانتها إقليمياً وعالمياً أكثر فأكثر إن شاء الله، ونتمنى للصومال وشعبها بكل التوفيق في الازدهار والتطور والإنجاز.
ختاماً إن الشعب الصومالي بشكله الحالي شعب مسلم عربي إفريقي فهو مرتبط منذ فجر التاريخ بالأمة العربية ارتباطاً تاريخياً وثيقاً قائماً على وحدة الثقافة والمصلحة المشتركة، وقد دعم تقاربها سهولة الاتصال البحري، فكان بينهما تكامل اجتماعي وجغرافي، فأكد الإسلام هذا الانصهار، وجعل العرب والصوماليين شبكة واحدة، بل وشعباً واحداً، عاشت الصومال وعاشت الأمة العربية والإسلامية جمعاء.
وهذه بيننا العادات واحدة *** نبل وصدق وأفضال بأفضال
إنا إلى العرب والإسلام نسبتنا *** آمال قومك يا أختاه آمالي
ثالثاً: دخول وانتشار اللغة العربية في الصومال
تشير الدراسات التاريخية إلى أن دخول اللغة العربية في الصومال يرجع إلى …. نواصل في الحلقة القادمة إن شاء الله.
الهوامش:
[1] – علي شيخ عبد الله، أثر اللغة العربية على اللغة الصومالية، وثيقة علمية، 1986، ص 103.
[2] – تغريد السيد عنير، دراسة صوتية لظاهرة الاقتراض من العربية، أعمال الندوة الدولية، مطبعة جامعة القاهرة ، 1987م، جـ2، ص91.
[3] – فوزي محمد بارو، تاريخ اللغة العربية في جمهورية الصومال، دار الوجوه للنشر والتوزيع، الرياض، 2019م، ص43
[4] – صالح محمد على. أصول اللغة الصومالية في العربية، ط (بدون)، دار النهضة العربية، القاهرة، 1994م، جـ 1 ص 175.
[5] – سيد أحمد يحيى، الصحوة الإسلامية في إفريقيا ، ط2 ، الناشر والمكان (بدون)، 1417هـ ـــ 1996م ص47.
[6] – ديرية ورسمة أبكر، تاريخ اللغة العربية في الصومال، الوثيقة العاشرة لوقائع الندوة العلمية في مقديشو 1986، ص 86.
[7] – زين العابدين السراج، الحياة الثقافية بالصومال في العصور الوسطى، مجلة البحوث والدراسات العربية، العدد 13، 1987، ص 320، نقلاً عن كتاب الثقافة العربية وروادها في الصومال، للدكتور/ محمد حسين معلم، ص 91.
[8] – اللغة العربية في الصومال، وقائع الندوة العلمية حول حملة تقوية اللغة العربية في الصومال، ص 87.
[9] – أثر اللغة العربية على اللغة الصومالية، مر جع سابق، ص 103.
[10] – المرجع السابق، ص 88.
[11] – علي الشيخ أحمد، الصومال وجذور المأساة الراهنة، ط1، (بيروت، دار ابن حزم، 1992) ، ص 79 .