لكل كتاب قصة …فما قصة هذا الكتاب؟
يظهر من خلال مقدمة المؤلف المرحوم عثمان حاج مصطفى، ومقدمة عائلته، أنّ الكتاب لم ينتهي كما بدأ، من منظور أنه عبارة عن مشروع بحثي أخذ أشكالاً مختلفة، ومراحل متعددة، حيث بدأت قصة هذا الكتاب ومسيرته مع المؤلف من خلال نظرته الثاقبة للشهود النهضوي والصحوة الإسلامية التي بدأت تدبّ في الصومال، وتأخذ مكانها في خارطة النهوض الإسلامي في شمال وشرق إفريقيا والجزيرة العربية والشرق الأوسط، ولهذا كان المؤلف شاهداً على عصره، وصادقاً في هدفه النبيل الذي مفاده” السعي إلى تعريف الناس بالدور التربوي والجهادي للسادة الصوفية الصالحية الرشيدية الأحمدية في الصومال، دون تزييف أو تزوير ، ودون فرض ميول ورؤى شخصية، وهو ما حرص المؤلف على تطبيقه في هذا البحث مع مراعاة الاستشهاد بأثر البيئات الاجتماعية والعوامل الجغرافية على مثل هذه الجماعات طبقاً للمصادر الرصينة، سواء كانت مكتوبة أو ميدانية أو منقولة من شهود عيان والتي يحسب لها ألف حساب من حيث التأكد على مصداقيتها و منطقيتها وصحتها”.
شرع المؤلف تدوين رؤيته في سلسلة مقالات بعنوان: “اعرف وطنك” وتطورت الفكرة إلى أن تكون كتاباً فكرته الجوهرية هي “جماعة مبارك” في إطار مقاربتها بما يحدث من تطورات وجهود في البيئة الإسلامية عامة والصومالية على وجه الخصوص منذ عام 2015م، فتوسعت فكرة الكتاب بأن تكون في إطار التاريخ الحديث والمعاصر نموذجا لجماعة مبارك بأبعاد بيئاتها المحلية والإقليمية والدولية مع حرصه على ضرورة استشراف المستقبل، (ومستقبل مأمول) وهكذا يبدو واضحاً أنّ قصة الكتاب قد تحولت من فكرة الكتابة الوثائقية عن جماعة مبارك إلى إطار تاريخي أوسع حول تاريخ الصومال والتاريخ الإسلامي في محطاته الثلاث الماضي والحاضر والمستقبل المأمول.
علاقة المحتوى المعرفي للكتاب بقدرات وتجارب المؤلف العلمية والعملية:
بمجرد أن تبدأ في تقليب صفحات الكتاب وتصفحه لابد وأن يلفت نظرك وانبتهاهك، ويسترعي اهتمامك قوة المحتوى والمضمون المعرفي لكل جزئيات الكتاب سواء حول جماعة مبارك أو تاريخ الصومال أو التاريخ الإسلامي السياسي والفكري والثقافي والاجتماعي والاقتصادي، وهنا يأخذك السؤال وبكل تلقائية عن ماهية وطبيعة العقل المعرفي والحقول المعرفية وميادين التجارب العلمية لمؤلف الكتاب الأستاذ/ عثمان حاج مصطفى محمد، وحينها ستدرك أنّ سيرته الذاتية المهولة هي بقامة هذا السفر والموسوعة العلمية التي كتبها خالدة ومحفوظة في ذاكرة المثقفين الصوماليين والعرب والعالم بأسره، فهو صاحب الـ 67 عاماً الذي وهب كل عمره في سبيل خدمة العباد والبلاد، وفي الوقت نفسه فهي تقارب فترة الكتاب التي كتبها 70 عاماً تقريبا، فهو فعلاً بقامة الخبير الذي يحمل همّ أمته ووطنه وفكره، أما أنه فتخرج في جامعة الإمام محمد بن سعود بالسعودية مختصصاً وباحثاً في اللغة العربية وآدابها، فهو عالم اللغة الذي يجيد فن التحليل والصياغة والتدقيق اللغوي والدلالي، أما عن تجربته وخبراته في مجال التعليم العام والتعليم العالي تدريساً وإدارةً وتأسيساً فتدل على قدراته الموسوعية الاحترافية العالمية داخل وخارج الصومال، ولعلّ أقيمها وأعظمها مشاركته في مشروع تعريب المناهج التعليمية في الصومال، وتأسيس مؤسسة زمزم عام 1992م، وجامعة مقديشو عام 1997م، وتأسيس مؤسسة المعارف بهرجيسا عام 2005م، والمعهد العالي لإعداد وتأهيل المعلمين، وغيرها من المؤسسات مما يصعب حصره في هذه العجالة.
والجدير بالذكر والإشارة إليه أنّ المؤلف يعتبر واحداً من أعظم وأشهر رواد العمل الطوعي والخيري الإسلامي في الصومال والمنطقة.
الإطار الموضوعي للكتاب: عبقرية السياق التاريخي المتداخل بين جماعة مبارك والصومال.
جاء عنوان الكتاب دقيقاً وعميقاً من حيث المتغيرات التي حواها، وهي تاريخ الصومال ومستقبله، ولكن في إطار نموذج مهم ومؤثر بل ومتأثر بمجريات تطورات التاريخ الصومالي وهي جماعة مبارك، فعند ما تنظر عنوان الكتاب يتبادر إلى ذهنك لأول وهلة، وكأن الكتاب مختص بتاريخ ومستقبل الصومال، ولكن عند ما تقرأ محتوياته وتنداح من خلال الفصول والمباحث والجزئيات تجد عبقرية النموذج حاضرة ومنسابة وبتسلسل متدرج ومنطقي للأفكار والمعلومات بين جماعة مبارك ومسارات وتاريخ الصومال، مؤكداً بهذه الفرضية أنّ تاريخ الجماعات الإصلاحية الإسلامية في الصومال لا ينفصل صيرورته التاريخية، وهذا ما أراد المؤلف أن يبرهنه في كتابه بصورة واضحة جلية.
فكرة النمذجة لجماعة مبارك الإصلاحية…وليست دراسة حالة.
يبدو أنّ المؤلف قد حالفه التوفيق في اختيار منهجية “النموذج” أو النمذجة من خلال اختيار “جماعة مبارك” والتي أضافت ميزات منهجيته ومعرفته مقدرة على شاكلة استخدام منهج النموذج الذي يتناسب أساساً مع استخدام المنهج الوصفي التحليلي والمنهج التاريخي والمنهج الاستقرائي التنبئي، كل هذه المناهج استخدمها المؤلف في تأليف كتابه، وكذلك أتاحت “النمذجة ” إمكانية دراسة وقراءة جماعة مبارك من خلال تاريخ الصومال العام، والاسلامي والحديث المعاصر، وقدرته على إظهار ربط وتحليل علاقة الجزء بالكل الصومالي، وأكثر من ذلك مكانة وعلاقة كل من جماعة مبارك والصومال في كلا النطاقين الإقليمي والدولي، هذه “النمذجة” والمنهجية البحثية بصورة عامة جعلت الكتاب أكاديمياً يلامس ويتداخل مع أغلب العلوم والتخصصات، حيث تطالع أحياناً الجغرافيا وتأثيراته على الجماعة والصومال، وإظهار عبقرية المكان الصومالي في نشأة وتطور جماعة مبارك وتفاعلاتها مع المحيط المحلي والإقليمي.
وفي سياق آخر تدهشك مداخل التحليل الديني وعلم الاجتماع الديني (علم الاجتماع الإسلامي) الذي يمثل المنظور الأبعد والأهم في تكوين جماعة مبارك وكل الحركات الإسلامية الإصلاحية في الصومال والمنطقة .
ولعل من أقوى ما أعطى “النمذجة ” قيمة هو قولبة المؤلف لها في إطار تأثير وتأثر جماعة مبارك بالتاريخ السياسي والفكر السياسي والثقافة السياسية التي كانت تسود الصومال والعالم الإسلامي.
معالم الكتاب …فن التبويب وبناء الأفكار
يمثل الكتاب في حد ذاته أنموذجاً في مناهج البحث العلمي ومنهجية التفكير البنيوي، وقد ظهر ذلك جلياً في براعة المؤلف وحذقه في وضع خارطة ومصفوفة مترابطة وقوية لموضوعات الكتاب تعتبر بكل المقاييس مثلاً حياً لمنهجية التبويب، وفن التقسيم والتي جاءت حسب اختيار المؤلف في أربعة (4) أقسام واثنى عشر(12) فصلاً وأربعة وعشرين(24) مبحثاً ومقدمة وخاتمة رصينتين، جاءت جميعها في حوالي 295 صفحة. هذا ويعتبر القسم الثالث من الكتاب الذي تناول فيه المؤلف – رحمة الله عليه – ” جماعة مبارك والتجمعات الزراعية لها” من أروع أقسامه وفصوله في تقديري، حيث حوى على خمسة فصول تحدث فيها بكل إبداع عن التقييم والتقويم عن الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والتعليمية للصومال وانعكاساتها على نشأة وتطور جماعة مبارك و منهجها وأفكارها وجهودها ورحيل مؤسسها وخلافة ابنه الحاج مصطفى محمد عبدي زياد.
هذا، وقد جاء القسم الأول من الكتاب عبارة عن مدخل إلى جغرافية وتاريخ الصومال، والقسم الثاني: مدخل إلى التصوف والحركات الإصلاحية الإقليمية في القرن التاسع عشر، وختمها بالقسم الرابع عن التنمية المنشودة ومستقبل مأمول نظرات على مستقبل جماعة مبارك والتجمعات الزراعية التابعة لها.
الإطار الزماني للكتاب 1916-1986 سبعون عاماً، لماذا؟!
من المعلوم بالضرورة أنّ لكل كتاب أو بحث أطروحة أو حتى ورقة علمية فترة زمنية لابد من تحديدها لتمثل الإطار الزماني الدقيق الذي تدور فيه كل التفاعلات والديناميات وأنساق الموضوع في تناغم وانسجام تام مع الإطار الموضوعي والمكاني وهو جماعة مبارك في إطار الصومال وبيئاتها الإستراتيجية الإقليمية والدولية.
وعليه، فقد مثّل العام 1916 ميلاد الخليفة لجماعة مبارك الحاج مصطفى محمد عبدي زياد، والعام 1986 تاريخ وفاته رحمة الله عليه رحمة واسعة.
ولكن الغريب في الأمر والجدير بالإشارة أنّ إبنه عثمان حاج مصطفى قد قارب عمره عمر والده، وكان 67 عاماً من 1954- 2021م، الأمر الذي يستنتج منه أنه قد عاصر الجماعة في حياته ما يقارب الإطار الزماني للكتاب الذي ألفه، وتلك مصادفة وترتيب رباني.
جوهر إشكالية كتابة التاريخ الصومالي… مشكلة الدولة والمجتمع والنخب
لعلّ من أفضل وأهمّ ما أشار إليه المؤلف الأستاذ عثمان حاج مصطفى في كتابه هذا هو تطرقه بقوة لمشكلة مسكوت عنها، متجاهلة وهي إشكالية كتابة تاريخ الصومال ، إذ استنكر هذا التفاعل أو الجهل والتجاهل حول كتابة تاريخ بلد ودولة بحجم الصومال، وأهمية الصومال ومكانة الصومال في التاريخ العربي والإفريقي والإسلامي، بل في التاريخ العام محط أنظار العالم والتنافس والتكالب الإقليمي والدولي على ثروات وموروثات الصومال ومواردها وموقعها الجيوسياسي والجيو إستراتيجي الذي يجسد عليه.
وقد ركّز المؤلف على كاتبين يتفقان معه في هذه المشكلة وهما: محمد طاهر أفرح، في كتابه “نظرات في الثقافة الصومالية”، والجنرال محمد إبراهيم ليقليقتو – في كتابه “تاريخ الصومال”.
ويبدو واضحاً أنّ هنالك شبه إجماع على إشكالية كتابة التاريخ الصومالي، وربما تظهر جل هذه الإشكاليات في الجوانب التالية:
1- صعوبة الكتابة بموضوعية وعلمية ومهنية.
2- غموض في كتابة التاريخ الصومالي.
3- الاعتماد على التاريخ الشفاهي فقط المليئ بالمغالطات والخرافات.
4- ترك الساحة للكتّاب الأجانب، مما أتاح للغربيين أن يكتبوا عن تاريخ الصومال بدلاً من الصوماليين، فهل يعقل ذلك؟
5- القصور المشين للدولة الصومالية وجامعاتها ومراكزها ونخبها خاصة المتخصصين في التاريخ من التفكير الجاد والتخطيط السليم، واتخاذ قرارات مصيرية في كتابة تاريخ الصومال، وتخصيص وحدات علمية خاصة بذلك مثل ما تفعل بقية الشعوب والدول التي تخدم لصالح تاريخها وإنسانها وسيادة دولتها.
إشارة خاصة للتلاعب الغربي بتاريخ الصومال:
في إشارة دقيقة ومهمة للوقوف عندها وعليها أكد المؤلف وبكل حسرة في هذه الصفحات ــــ 27-32، بأنّ كتابة تاريخ الصومال قد تركت للكتّاب المستعمرين الذين كانوا في الصومال، وقد أجحفوا في حق وتاريخ الصومال، وقد استشهد المؤلف في ذلك بمثالين:
∙ الأول: الباحث البريطاني: إيوان ميردين ليويس(I.M. LEWIS) البروفيسور في الأنثروبولوجيا عمل في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية واشتهر بأبحاثه وكتاباته حول الصومال تاريخاً ومجتمعاً، واصفاً الشيخ المناضل والقائد محمد عبدالله حسن “بالشيخ المجنون” وفي الوقت نفسه ممجداً القائد البريطاني ريتشارد كورفيلد(Richard Cunningham Cornfield ) عند غزوه الصومال واحتلاله ونهب خيراته، بالإضافة إلى تشوهاته في ثقافة ودين الصوماليين.
∙ الثاني: الكاتب الملازم البريطاني: سي. جي. كروت ندين(C. J. Cruttenden ) الذي كتب عن القبيلة في الصومال، ووقع في أخطاء ومغالطات تاريخية، حيث يعتبر التدين الإسلامي نوعاً من التخلف، وقد استنكر أن يطلق على الشيوخ أو الفقيه أو معلم القرآن لقب الحكيم أو صاحب الحكمة.
ولهذا السبب دعا المؤلف المثقفين الصوماليين والباحثين أن يتحملوا المسؤولية في كتابة تاريخ الصومال وعن إنسان الصومال ومكانة الصومال.
رسم خارطة التصوف في الصومال… وخصوصية الصومال الصوفية:
أجاد الكاتب وبكل إتقان توصيف خارطة الطرق الصوفية في الصومال، وارتباط جماعة مبارك بأصول التصوف وعلماء الطرق الصوفية، وذلك من خلال قسم بأكمله.
وقد أفرد المؤلف مساحة مقدرة لفلسفة التصوف عن الطريقة الإدريسية ورافدها، ومنها قد وضح أصل شجرة التصوف وفروعه في الصومال بدءً بدخول الطريقة الأحمدية في منتصف القرن التاسع عشر، والتي تختلف الآراء فيها حول من أدخلها إلى الصومال، ولكن المؤلف ومعه جل الباحثين إن لم يكن كلهم يرجحون أن الطريقة دخلت بواسطة الشيخ عبدالواحد المعروف بعبد الرحمن (الرحمانية)على الأرجح، وكذلك الشيخ العلامة حسن معلم مؤمن، والشيخ علي ميه الذي كان له دور بارز في نشر الطريقة في كل أنحاء البلاد.
وقد طاف المؤلف على الطريقة الصالحية لمؤسسها الشيخ محمد صالح الدويحي السوداني، ثم الطريقة الرشيدية الإدريسية، وقد وضح المؤلف من خلال السرد التاريخي المترابط لأعلام التصوف بالصومال مدى قوة ارتباط التصوف الصومالي بجذور حركة التصوف وروادها في المشرق والمغرب العربي الإسلامي، وأكثر من ذلك تحليله المستفيض عن خارطة انتشار الطرق الصوفية في كل أقاليم الصومال، والآثار الدينية والتعليمية والثقافية والاقتصادية والوطنية السياسية في محاربة ومواجهة الاستعمار، كل ذلك في إطار قوالب وأنماط ومحددات عبقرية المكان والزمان والإنسان الصومالي، حيث تشكل التصوف الصومالي بما يتماشى و يتواكب مع البيئة الجغرافية والثقافية والفكرية للصومال والصوماليين.
خلاصة أخيرة:
وأخيراً يمكن القول إن كتاب ” إطلالة تاريخية على الصومال ومستقبل مأمول” جماعة مبارك نموذجاً، لمؤلفه الأخ الراحل المقيم الأستاذ عثمان حاج مصطفى محمد، يُعد إسهاماً معتبراً من إسهامات علماء الصومال، وآية ذلك أنّ هذا الكتاب منجز علمي مهم ينم عن إحاطة المؤلف بموضوعه إحاطة السوار بالمعصم، إذ فيه يقدم أفكاراً مرتبة بلغة سهلة ومنهجية عالية، بعيداً عن الحشو والإطناب والتكرار، والقصص الضعيفة الموضوعة.
إنّ الكتاب جدير بالقراءة لمن يلم بجوهر موضوع تاريخ الصومال، وتاريخ الجماعات الإسلامية الإصلاحية، وعليه يكون هذا الكتاب مصدرا وزاداً لكل صاحب اهتمام بالمسألة الصومالية.