شهدت الساعات الأخيرة تطورات سريعة وردود أفعال من الجانب الإثيوبي ردا على التعاون العسكري الصومالي المصري وسارعت إثيوبيا بإعلان التهديد والوعيد خوفا على مصالحها على الرغم من كونها من أشعل فتيل الأزمة من البداية مع جارتها الصومالية وكذلك مع مصر سواء بتعنتها في مفاوضات سد النهضة أو بالتفافها حول دولة الصومال والقيام باتفاق مع إقليم أرض الصومال غير المعترف به دوليا للحصول على منافذ بحرية وقوعد عسكرية بجانب قيامها بتعيين سفير لها هناك.
ثم عادت وأظهرت محاولات ضبط النفس بمخاطبة الأطراف المعنيةومطالبتهم بالحوار قبل معاودتها للهجتها الهجومية بالإعلان عن إغلاق بوابات سد النهضة كرد استفزازي لمصر. ولاشك أن إثيوبيا تعيش قلقا كبيرا من التقارب الصومالي المصري والدعم العسكري الذي تلقته جارتها وهو ما آثار تصريحاتها الغاضبة، خاصة مع ما تمر به من أزمات داخلية خانقة تقوض أركان النظام. وهو ما أكدته تقارير دولية متخصصة منها تقرير مجموعة الأزمات الدولية لعام 2024 حول توقعاتها السنوية للمناطق المعرضة لخطر تصاعد الصراع فيها ورشحت إثيوبيا كإحدى المناطق الحرجة والأكثر إضطرابا بسبب حربها مع جبهة التيغراي وإريتريا وانتشار المجاعة.
جبهات داخلية مشتعلة وفقدان للسيطرة
لقد كشفت تطورات الأحداث في إثيوبيا عن مشكلات داخلية عميقة ومتجذرة منذ زمن طويل ولم ينجح آبي أحمد في تحقيق وعوده بحلها، وإنما استفحلت في عهده. وعلى الرغم من الهدوء النسبي في بداية عهده والذي مكنه من الحصول على جائزة نوبل للسلام، إلا أنه سرعان ما تفجرت الأوضاع أكثر من مرة ووقعت ثلاث محاولات انقلابية ضده، ما يشي بوجود نيران مشتعلة تحت الرماد يزيد من خطورتها هشاشة الوضع الداخلي في ظل التنوع العرقي المصحوب بالتوتر الأمني الناجم عن وجود ميليشيات تابعة لهذه الأعراق تحمل السلاح وتهدد وحدة الدولة واستقرارها. ووصل الأمر إلى إعلان رئيس إقليم الأمهرة الإثيوبي في شهر أغسطس المنصرم فقد السيطرة مما يفضح خطورة الوضع الداخلي في إثيوبيا.
هناك جبهات مشتعلة بالفعل داخل إثيوبيا منذ تولى آبي أحمد الحكم ورغم توسم الإثيوبيين خيرا فيه إلا أن فشله في إدارة أزماته الداخلية المزمنة ساهم في تعميقها واستحكامها. وتشير تقارير إلى أن أبي أحمد قام بعزل وتعيين عدد من المسؤولين على مدار ست سنوات تقارب إجمالي المسؤولين خلال ستة عقود ما يشي بوجود أزمة ثقة بين رأس النظام ورجاله فيقوم بتغييرهم باستمرار خوفا من عدم ولائهم، لكن ذلك قد يتسبب أيضا في خلق جبهة داخلية مضادة له من أولئك المسؤولين المعزولين والتآمر عليه، وهو أمر يزيد من حالة التوتر الداخلي.
تعاني الجبهة الداخلية من مشكلات عرقية خطيرة بدأت بصدام أبي أحمد مع الأورومو بسبب تهميشهم وهضم حقوقهم السياسية، ثم حروب جبهة التيجراي وصولا لأزمة الأمهرة التي تم تصعيدها في إبريل الماضي عقب قرار الحكومة الإثيوبية بحل المليشيات الإقليمية وتأسيس قوة مركزية واحدة على مستوى الجيش والقوى الأمنية الأخرى الأمر الذي فجر غضب الأمهريين الذين رفضوا هذا القرار وتمت الدعوة إلى المظاهرات في المدن الرئيسية وسط تصعيد خطير انتهى في أغسطس الماضي بإعلان رئيس الإقليم فقدان السيطرة على الأوضاع! وهي الفرصة التي يحاول الأمهريون استغلالها لاستعادة أمجادهم كحكام للبلاد.
لاشك أن هذا الوضع يعكس حالة احتقان شديد بين مختلف الأعراق الإثيوبية خاصة بالنظر إلى الجذور العميقة لهذه النزاعات والتي تجددت ملامحها عام 2018 خلال حكم “أحمد” وإعلانه إصلاحات شملت تنحية قادة في الجيش والمخابرات من أبناء إقليم تيغراي، وتعيين قادة من قوميتي الأمهرة والأورومو في مواقعهم. وفي عام 2020 دخلت البلاد في نزاع دستوري بسبب تأجيل الانتخابات نتيجة وباء كورونا. ووجهت الاتهامات لأبي أحمد باستغلاله الجائحة لبسط نفوذه وتمديد ولايته. وقامت جبهة التيجراي بتنظيم انتخابات من طرف واحد، دون أن تعترف الحكومة المركزية بنتائجها، لتشتعل الأحداث نحو نزاع مسلح في 2020 بعد تدخل الجيش الإثيوبي في الإقليم وقيام الحكومة المركزية بتنظيم انتخابات محلية جديدة.
لم تنته أزمة أبي أحمد مع التيجراي عند هذا الحد، فبعد أسابيع من تفجر أزمة الأمهرية في إبريل الماضي، نجحت جبهة التيجراي في استعادة سيطرتهم على عاصمة إقليمهم “ميكيلي” ما اضطر الحكومة المركزية لإعلان وقف إطلاق النار، إلا أن النار بقيت تحت الرماد ليستمر التوتر، الذي ساهم في زيادته تفاقم الأوضاع بسبب الإجراءات التعسفية التي فرضتها الحكومة المركزية للرقابة والتضييق على الشعب في مختلف الأقاليم وذلك في محاولة لتقويض أية محاولة من المعارضة للضغط على نظام أبي أحمد.
أزمات اقتصادية
إلى جانب التوتر الأمني تعاني إثيوبيا داخليا من أزمات اقتصادية مستحكمة نتيجة الحروب وعوامل الجفاف وحدوث تراجع كبير في تدفق العملات الأجنبية حتب وصل الأ مر إلى عجزها في ديسمبر الماضي عن سداد سندات ديونها مما أفقدها الوصول إلى أسواق رأس المال العالمية فاضطرت حكومة أبي أحمد مؤخرا لاتخاذ إجراءات صعبة ومؤلمة منها تحرير سعر الصرف وذلك بعد أن وصلت احتياطاتها النقدية الأجنبية إلى مستوى يكفيها بالكاد لتغطية واردات أسبوعين. ولاشك أن هذا الوضع يمثل ضغوطا على الشعب الإثيوبي بما يزيد من عدم الاستقرار نتيجة لشيوع حالة الغضب وعدم الرضا عن الأوضاع الاقتصادية المتردية في البلاد.
سياسات خارجية مستفزة
لا تقتصر المشكلات في إثيوبيا على الجبهة الداخلية وإنما تمتد إلى الخارج، فعلى مدار سنوات إدارته للبلاد تسببت السياسات الخارجية لرئيس الوزراء أبي أحمد في استعداء جيرانه في منطقة القرن الإفريقي نتيجة استفزازهم بسياسات عدوانية تجعلهم على طرفي نقيض معه. فقد دخل في خلاف مع السودان بسبب أرض الفشقة ومع إريتريا بسبب اتفاق السلام مع جبهة التيجراي، ومع الصومال بسبب موقفه الداعم لانفصال إقليم أرض الصومال والاعتراف بها رغم عدم شرعية وضع الإقليم. كما دخل مع مصر وكذلك السودان معركة شرسة بسبب سد النهضة وتعنته في محاولته فرض سياسة الأمر الواقع على دول المصب دونما اهتمام ولا رعاية لمصالحهما وأمنهما المائي. وهاهو أبي أحمد قد أعلن عن غلق بوابات السد انتقاما من موقف مصر الداعم لشقيقتها الصومال وتعاونهما العسكري معا. يأتي ذلك في الوقت الذي يسعي فيه نحو تحركات مثيرة للقلق في إقليم القرن الإفريقي والسعي لتعميق العلاقات العسكرية مع أوغندا وتنزانيا في محاولة لعمل تحالف يرهب به جيرانه ويرسل لهم من خلاله رسائل استباقية.
كما تعاني إثيوبيا من مشكلة مزمنة منذ صارت دولة حبيسة بعد انفصال إريتريا عنها عام 1993 ، حيث حرمت من أي منفذ على البحر، وهو ما جعلها تبحث عن حل يتيح لها التواجد على السواحل البحرية كبديل يحقق لها مصالحها الاستراتيجية، فقامت بإبرام اتفاق في يناير الماضي مع إقليم أرض الصومال لضمان إمكانية الوصول المباشر إلى البحر الأحمر ومنه إلى المحيط الهندي، وهو ما أغضب جمهورية الصومال لاعتبار الأمر تعديا على سيادتها بما يهدد مصالحها. ولذلك جاء اتفاق التعاون العسكري المصري الصومالي ردا على الاستفزاز الإثيوبي للطرفين.
إن إثيوبيا تدرك جيدا أن الظروف الصعبة الداخلية التي تمر بها البلاد سواء الأمنية أو الاقتصادية لا تحتمل أزمات إضافية في محيطها الإقليمي خاصة مع انشغالها بحروب وتوترات قبلية في جبهات متعددة متشابكة، حتى ولو كان ذلك بهدف توحيد الجبهة الداخلية ضد خطر خارجي مزعوم، لأن الأمر سيكون وقتها بمثابة مقامرة غير محسوبة لأبي أحمد، خاصة وأنه فشل في الحفاظ على علاقات طيبة مع كثير من جيرانه.