تعد كينيا واحدة من أهم دول شرق إفريقيا، وعاصمتها نيروبي، ومساحتها الإجمالية 580,367 كم2 . ويعيش فيها أكثر من 47 مليون نسمة. وبحسب التعداد الرسمي الصادر فى نهاية ٢٠١٩ فإن عدد المسلمين في كينيا يصل إلى خمسة ملايين نسمة تقريبا . و تشير بعض التقديرات الغير رسمية بأنّ عدد المسلمين فى كينياقد لايقل عن 15 ملايين نسمة تقريباً.
تاريخيا وصل الإسلام إلى كينيا من خلال التجار العرب الذين كانوا يتعاملون السكان الأصليين عبر الموانئ الساحلية على طول ساحل ممباسا ولامو ومناطق ساحلية أخرى. وساهمت القبائل الصومالية المتمركزة بشمال شرق كينيا فى نشرالإسلام على إمتداد كافّة مناطق كينيا ، سواء كان ذلك في الشمال و الجنوب أوالشرق و الغرب ، وتوجد الغالبية العظمي من المسلمين الكنيين فى منطقتي الساحل و شمال الشرق.
ورغم ماعانى المسلمون منذ فترة طويلة من التهميش والتمييز والإقصاء الاجتماعي،إلا أنهم قد لعبوا دورا إيجابيا فى التجارة، والسياسية والثقافة ومجالات أخرى مهمة في الحياة ، كما كان لهم دور بارز فى إنشاء مراكز وهيئات ومؤسسات إسلامية، تأتي في مقدمتهم مؤسسة المجلس الأعلى لمسلمي كينيا ، وتعتبر المظلة الجامعة لكل المسلمين ترعي مصالحهم في الداخل وتمثلهم في الخارج ، خاصة في التكتلات والدول المسلمة .
مع بداية التسعينات في نهايات القرن العشرين، شهدت كينيا تحولا نوعيا نحو التعددية الحزبية والإصلاحات السياسية وإنهاء نظام الحزب الواحد المسيطر على دفة إدارة البلاد، ومثلت هذه الخطوة إنتقالا سياسيا وتخطيا لصعوبات سياسية واجتماعية واقتصادية تراكمت عبر عقود من الزمان . وبرز فى كينيا بعيد تلك الفترة واقع سياسي جديد إتسم بالإنفراج النسبي على مستوى الحريات السياسية ، واستفاذ المسلمون من تلك الإصلاحات التي قد ضمنت لهم مشاركة فاعلة في المجال السياسي ، حيث دخل البرلمان الوطني ٢٦ نائبا مسلما فى عام ٢٠٠٢ م ، ليزداد ذلك العدد فى عام ٢٠٠٧م، حيث فاز ٣٢ نائبا من مسلمي كينبا بمقاعد برلمانية في مجلس الشعب الكيني.
وفى عام ٢٠١٠ اعتمد الشعب الكيني دستورا جديد كان بمثابة تكريس للديمقراطية وضمان جميع الحريات للمواطنين ، وكذلك الحقوق المنصوصة في المواثيق الدولية التى تصون كرامة الإنسان والحريات الأساسية لجميع شرائح المجتمع ، بغض النظر عن دينهم ولونهم وعرقهم . وشكل الدستور الجديد تحولا عميقا فى حياة الأقلية المسلمة حيث أسّس لحكومة اتحادية تقسم كينيا بموجب الدستور الجديد إلى ٤٧ مقاطعة تتمتع كل منها بسلطات وموارد كبيرة ، ويحكم كل إقليم حاكم منتخب أى منح الإقليم حكما شبه داتي. فلقد أقام الدستورالجديد سلطات تشريعية وأخرى تنفيذية للأقاليم ومنح صلاحيات وسلطات واسعة لها فى جميع المجالات باستثناء مجالي الأمن والقضاء . كما استحدث الدستور مجلس الشيوخ وحصة المرأة ينتخب من الشعب مباشرة حيث لكل إقليم عضو واحد يمثله في مجلس الشيوخ بالتساوي بغض النظر عن مساحة الإقليم وعدد سكانه. وبهذا دخل ٥٧ نائبا من المسلمين فى البرلمان واأثر من عشرة ممثلين فى مجلس الشيوخ . وفاز المسلمون بأغلبية ساحقة فى جميع البرلمانات المحلية فى المناطق دات الأغلبية المسلمة، إضافة إلى حصولهم ولأول مرة ثمانية من حكام الأقاليم.
الجدير بالذكر في هذا السياق بروز القوة السياسية للمسلمين في الإنتخابات التي جرت في التاسع من آب/أغسطس الماضى والتي فاز فيها السيد روتو، رئيس حزب كينيا أولا، على منافسه رايلا أودنيجا، رئيس تحالف كينيا الواحدة، حيث حققوا إنجازات تاريخية وازداد عدد النواب المسلمين فى مجلسي الشيوخ والنواب ، كما حققوا رقما غبر مسبوق وحضور لافت في البرلمانات المحلية في المناطق ذات الأغلبية المسلمة ، إضافة إلى تعيين السياسي الكيني ” من أصل صومالي ” المخضرم السيد : أدم بري دعالة وزيرا للدفاع .
وقد تزامنت الاصلاحات السياسية فى كينيا مع نمو سريع فى النشاط الاقتصادي حيث اعتمدت الحكومة سلسلة من الاصلاحات الاقتصادية التي عززت مقوومات الدولة وإمكانياتها المحلية كمركز إقليمي للتجارة فى شرق افريقيا. بالإضافة إلى ذلك، حافظت كينيا على النظام الحر للتجارة الخارجية مع وجود سياسات فعالة للاستثمار الداخلى. وفى هذا الصدد ازداد عدد المستثمرين المسلمين المحليين والأجانب في عدد من المجالات خاصة فى مجال الاستيراد و تصدير البضائع والسلع فى جميع القطاعات الحيوية . ونجح المسلمون كذلك الإستثمار في مجال الضيافة بافتتاح الفنادق والمطاعم الراقية، وشركات تطوير العقارات، إضافة إلى تأسيس إذاعات وتلفزيونات محلية، ووكالات أنباء خاصة ، وشركات تأمين و محاماة، وكذا البنوك التجارية والشركات المصرفية والتمويلية. بجانب إنشاء مستشفيات خاصة ومؤسسات تعليم عالي فضلا عن تأسيس عشرات المنظمات الحقوقية والمؤسسات الفاعلة في المجتمع المدني.
ورغم كل هذا التطور السياسي والتحول الإقتصادي للمسلمين فى كينيا، إلا أنهم لازالو يواجهون عددا من التحديات ومنها غياب رؤية إستراتيجية موحدة لهم في مواجهة السياسات الخاطئة للدولة تجاههم و المتمثلة بالإعتداء على المسلمين تحت حجة مكافحة الإرهاب وسلب حقوقهم كمواطنين تحت ذرائع واهية ، إضافة إلي غياب العدالة في تقاسم الثروة والتنمية المتوازنة لكل أقاليم كينيا ، وظلت الأقاليم الممثلة للمسلمين عرضة للتهميش أكثر من غيرها في كل الحقب التاريخية المختلفة.
وتتمثل المشكلة الثانية في فقدان وجود هيئة جامعة متخصصة بالإفتاء والبحوث في المسائل الشائكة والتي تعتبر من أخطر الآفات التي يواجهها المسلمين فى كينيا.
فأما بالنسبة للتحدى الأول: فإنه يمكن القول بأن الحريات والحقوق الأساسية للمواطنين كحرية الفكر والرأي والاعتقاد والدين مكفولة للجميع، ولكن الحكومات المتعاقبة والحالية دأبتا على تقييد الحريات والحقوق الأساسية للمسلمين بموجب قانون مكافحة الإرهاب، وقانون الأمن. ولذا يتعرضون بصفة شبه يومية بالتفتيش والمراقبة دون إذن القضاء ، واصبح القتل خارج نطاق القضاء، والاعتقال التعسفى، وحوادث الاختفاء القسرى، والاستجواب السري أمر معتاد. والأخطر من ذلك أن معظم المناطق دات الأغلبية المسلمة كممباسا وشمال شرق كينيا تخضع لقانون الطوارئ بصورة شبه مستمرة ولفترات طويلة. علما بأن الطؤارئ تشمل تدابير أمنية وتقييد الحريات وحظر التجوال ما يعني غياب سيادة القانون فى المناطق دات الأغلبية المسلمة، فضلا عن الإصطرابات الأمنبة والإجتماعية المتكررة . ويضاف إلى هذا التحدي غياب التنمية المتوازنة في الأقاليم حيث تتمتع بعض منها بمشاريع تنموية من الدولة وأخري لا تتوفر فيها الخدمات الأساسية والأقاليم المحسوبة للمسلمين تعاني من التخلف الاقتصادي ، ويعزى ذلك إلي عدم استثمار الدولة في مشاريعها التنموية في تلك الأقاليم ، الأمر الذي أثرسلبا على التوزيع العادل للثروة القومية للمواطنين حيث تم توزيعها بناء على الإنتاج أو التعداد السكاني والذي قد لا يتوفر للمسلمين بنفس القدر إذا قورن مع الأقاليم الأخري ذات الكثافة السكانية لغير المسلمين .
وفي العام المنصرم لجأت الحكومة إلى تعديل الدستور عبر مشروع بناء الجسور “بي بي أي ” -والذي هو عبارة عن مقترح جديد لدستور قومي -وبحسب الخبراء يستهدف هذا المقترح بصيغته الجديدة المناطق دات الأغلبية المسلمة بسحب معظم الاستحقاقات الدستورية منها وخلق واقع جديد يهمش دور الأقلية المسلمة والعودة بهم إلى فترة ما قبل التسعينات من القرن المنصرم .
ومع كل هذه التحديات ، فليس لدى المسلمين رؤية مشتركة لمواجهة هذه السياسات الممنهجة للدولة تجاههم . نعم هناك مجهودات فردية أو بعض الجهات مثل المجلس الأعلى لمسلمي كينيا و منتدى القيادات الإسلامية ولكن لا يوجد حتى اللحظة رؤية أو إستراتجية مشتركة لتحريك المسلمين وتوحيد كلمتهم لمواجهة تلك السياسات والحفاظ على المكتسبات والاستحقاقات الدستورية .
وأما بالنسبة للتحدي الآخر فهو فقدان تام لمجلس إسلامي مختص بالإفتاء والبحوث العلمية إو إرشاد الأقلية المسلمة فى كينيا والتى تعيش تحت سلطة غير إسلامية. وبتعبير آخر إن المسلمين فى كينيا يعيشون تحت نظام دستوري وقانوني واجتماعي وأسري لا يتوافق جزئيا مع تعاليم الإسلام وروحه، ويواجهون تحديات جمة لممارسة حياتهم اليومية
حيث يصعب عليهم الجمع بين تعاليم الإسلام ومتطلبات القوانين التي تنظم حياتهم في كافة الاصعدة
وكالعادة، وعند حدوث المسائل المستحدثة التي فد تصادف المسلمون فى حياتهم اليومية ولم تكن موجودة من قبل في سياقات البيئة المحلية ، يلجأون إلى العلماء في إستبيان الحكم الفقهي فى تلك المستجدات ، وخاصة لدى تعديل القوانين أو إصدار سياسيات جديدة تنظم حياة الناس من قبل الدولة، وسرعان ما يصطدمون بفتاوى غريبة من الأئمة ومنابر الجوامع والتي لاتتماشي كليا مع أحوال الأقلية المسلمة وظروفهم الخاصة، ولا تراعى تلك الفتاوى غالبا الواقع الذي يعيشون فيها المسلمون وطبيعة السلطة التى يخضعون لها. الفتاوى قديمة لأسئلة العصر، والاكتفاء عادة ما يكون بسرد ما ورد في بطون بعض الكتب دون محاولة الإستنباط، أو استيراد فتاوى من دول أخري مشابهة . ودون النظر إلى حالة السائل وواقع الأقلية المسلمة فى كينيا، قد أدت هي الأخرى إلى بث الفرقة و تعطيل حياة الناس اقتصاديا واجتماعيا. وهذا طبعا يتنافى مع تعاليم الإسلام التى تتجدد مع تجدد الأحداث وتتغير بتغير الأزمان .
وعلى سبيل المثال فقد شاع في الآونة الأخيرة فتوى من أحد أئمة المساجد يكفر فيها من دخل قبة البرلمان، وحرّم العمل مع بعض الأجهزة الحكومية. كما شاع الجدل حول تولي المرأة، وخوضها فى غمار السياسة و العمل فى المكاتب الحكومية، ومسألة التأمين وما إذا هي مباحة أم محرمة ، و التداول في سوق الأوراق المالية، وصالات بيع الأسهم، والإيجار بالتملك، وشراء البيوت بالقروض البنكية والتعامل مع نوافد إسلامية فى البنوك والمصارف التقليدية، مازال مستمرا وغير محسوم حتي الآن. بل ومازال بعض الأئمة يفتون بأن الاستنجاء يصح بالحجرفقط و لايؤدي المنديل عوضا عنه، وأن السواك أفضل من المعجون، وإن بناء المرحاض خارج المنازل أفضل من الحمامات في داخل البيوت، ما من شأنه أن يعقد حياة الناس ويؤثر سلبا بل ويشكل خطورة فكرية على الأفراد والمجتمع. ومن ثم ينبغي على المسلمين إيجاد هئية علماء ومجلس يفتي فى المسائل المعاصرة والمعقدة من أجل توحيد الآراء الفقهية وإصدار فتاوى تحل مشاكل المسلمين بناء على الأصول الدينية المعتبرة، ومراعاة لظروف الواقع المعاش ومتطلبات العصر. والمسلمون فى كينيا عموما، فى أمس الحاجة إلى تطبيق فقه الأقليات وفقه التيسير وفقه الواقع. فمن الواجب توسيع دائرة الإستنباط و النظر الأصولي المقاصدي وتعميق البحث العلمي في القضايا المطروحة للإفتاء، سواء ما يتعلّق فيها من أحكام الشريعة أو متطلبات الواقع أوالقوانين والحيثيات الثقافية والفلسفية للأحداث، ليكون الإفتاء متصلا با لواقع ودون تعطيل للأصول الدينة المعتبرة للمسلمين .
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الشبكة، وإنما تعبر عن رأي أصحابها!
نشكر المستشار آدم على هذه المبادرة لتصحيح مسار الامة المسلمة في كينيا،
وهو فيما يبدو لي إستعرض التاريخ وشخص الحاضر ويستشرف المستقبل، وهذه المحاور الثلاث كما تفضل الاخ تحتاج إلى إيجاد مركز للدراسات الإستراتيجية التي تستحدث الحلول المناسبة لواقع الامة.
ماشاء الله سيد المستشار اكتشاف رائع، نعم فإن الأمة تحتاج الي توعية شاسعة، وتعليم الواقع
شكرا يا عمي