فنّ الصرف وحلقاته في الصومال
سبق أن أشرنا إلى أن العلماء كانوا يحرصون دائماً بنشر الدعوة الإسلامية والعلوم الدينية التي لها علاقة مباشرة بالدين الإسلامي كالقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، إلا أنّ حلقاتهم العلمية لم تخل من نشر علوم اللغة العربية وفنونها المختلفة من نحو وصرف وبلاغة، وما إلى ذلك؛ لأنهم كانوا يرون بأن علوم اللغة العربية مساندة لفهم جوهر الإسلام ، بل يعتبرونها بأنها آلة توصل إلى فهم العلوم الدينية ، ولم يأت من فراغ عند ما سموها بعلم الآلة. وفي ذلك يقول الباحث القدير الدكتور عبد الرحمن شيخ محمود الزيلعي القطبي متحدثاً بجهود العلماء الأوائل في نشر اللغة العربية من خلال حلقاتهم العلمية بعد أن تحدث العلوم الأخرى: ” علم اللغة؛ حيث يتعلم الطالب جميع فنون اللغة العربية، من النحو والصرف والبلاغة والمنطق والعروض، ويحفظ المتون عن ظهر القلب، حتى يكون متفنناً بهذا العلم، ويتجرأ على نظمه ونثره.(1)
والحديث عن الحلقات العلمية التي كان يدَّرس فيها علم الصرف في أنحاء بلاد الصومال الكبير، حديث ممتع كغيره من الأحاديث في الحركة العلمية التي كانت تجري على جنبات البلاد عبر العصور، غير أنّ ما نفعله هنا في هذه السطور إنّما هي محاولات بسيطة للإشارة إلى بعض نماذج من تلك الحلقات وشيوخهم، حتى نرى مدى اهتمام العلماء وطلبتهم بهذا الفن.
والحلقات الصرفية التي اشتهرت في أوساط أهل العلم في الصومال كانت مستمرة ولم تنقطع يوماً من الأيام، غير أنّه كان هناك بعض المناطق والمراكز أكثر نشاطاً من غيرها، بحيث اشتهرت بعلم الصرف، مثل وارشيخ، شلانبود Shalanbood ، قلنقول، عرمالي، هرر، زيلع، بورما، وغير ذلك، ومع هذا كله، فلم تكن هناك منطقة من المناطق التي يقطنها أهل الصومال في القرن الإفريقي إلا وكان فيها مجالس علمية يعقد لدراسة العلوم الشريعة الإسلامية واللغة العربية من نحو وصرف، ولكننا نشير هنا فقط ما توقفنا عليه من المعلومات في تلك الحلقات العلمية المزدهرة التي خصصت بدراسة علم الصرف، وليس قصدنا التحديد والحصر، وإنّما مجرد ضرب بعض نماذج بسيطة، ولعل غيرنا من الباحثين والدراسين – وما أكثرهم –يقومون بإذن الله بالبحث والتنقيب عن ما يتعلق بمآثر علمائنا، وأنشطتهم العلمية، لاسيما فيما يتعلق بفنّ الصرف ودروبه، وهو أمر له أهميته في الحياة العلمية التي كانت تتمتع بها منطقتنا.
حلقة الشيخ عبد الرحمن الشيخ يوسف المعروف شيخ عبد الرحمن طوب، وتارة أخرى بشيخ عبد الرحمن الصرفيلي الأغاديني، وتُعدّ هذه الحلقة من أشهر الحلقات الصرفية في القطر الصومالي في القرن المنصرم، وكان الشيخ عبد الرحمن يواصل درسه الصرف بدون انقطاع؛ بحيث كان يبدأ من جديد كلما أنهى كتابا، كما أنّه لم يكن ينحصر في موقع معين ، وإنّما كان يتنقل من مسجد إلى مسجد، ومن زاوية إلى أخرى. ومن ناحية أوقات التدريس فكان الشيخ عبد الرحمن يقوم بتدريس علم الصرف في أول النهار، وكذلك في آخر النهار، مما يدل على حرصه في نشر العلم وحبه لمجالس العلم وطلبته، ومن هنا فلا يستغرب إذا كثر من يطلب هذا الفن على يد الشيخ عبد الرحمن بشهرته وببركة حلقته. وقد كنتُ أرى الشيخ عبد الرحمن في بداية الثمانينات وهو يقرأ في مسجد الشيخ عبد القادر المعروف بمسجد ” مقام ” بمقديشو في وقت الضحى.
ومما لا شك فيه فإن جميع الحلقات العلمية التي كان يعقدها علماؤنا كانت في غاية الأهمية ، وكانت لهذه الحلقات طابع تطوعي مع الاستمرار والمداوة بحيث كان العلماء لا يملون من نشر العلم بدون انقطاع، وفي أكثر من حلقة أو موقع في يوم واحد، كما كان يفعل الشيخ عبد الرحمن طوب الذي اشتهر بالشيخ عبد الرحمن الصرفيلي ، كونه تخصص في دراسة هذا الفن منذ فترة طويلة ، ولم يكن الشيخ يمل حتى أنّه كان يعقد جلساته العلمية في الصباح وفي الضحى والظهيرة ، وكذا في الفترة المسائية. ومن هنا كانت حلقة الشيخ عبد الرحمن صرفيلي متميزة عن غيرها في وقته، لذلك قصد إليها جمع من طلبة العلم لشهرتها، وقد تخرج فيها أغلب من قام ويقوم اليوم بتدريس علم الصرف في جنوب البلاد.
ونحن نشير هنا إلى بعض من يشار إليهم بالبنان من هؤلاء الذين نهلوا من حلقة الشيخ عبد الرحمن الصرفيلي ثم حملوا هذا العلم الثمين وأوصلوه إلى طلبة العلم الآخرين عبر المجالس والمراكز العلمية، محاولين ضرب أمثلة لهؤلاء؛ وذلك في سبيل الإشارة فقط لا الحصر.
بعض طلبة الشيخ عبد الرحمن الشيخ يوسف (طوب) الصرفيلي:
– الشريف إبراهيم عبد الله علي السرماني، وهو من أوائل من تلقى علم الصرف علي يد الشيخ عبد الرحمن لشيخ يوسف الملقب بشيخ عبد الرحمن صرفيلي الأغاديني. ويُعدّ الشريف إبراهيم السرماني من أشهر الدعاة والمعلمين في مقديشو وضواحيها، وقد ألّف عدداً من الرسائل العلمية لها علاقة بالقرآن وعلومه، والفقه وأصوله، مثل:
– بشائر العلماءبدلائل الفقهاء على متن سفينة النجا.
– أهمية المدارس القرآنية في تربية الناشئين في الصومال.
– إتحاف الدارس بأخبار المدارس.
– صفوة البيان في تجويد القرآن.
– الأدلة الحاوية على العقيدة الطحاوية
– ذكريات آل البيت الأطهار في تاريخ الصومال الأزهار.
الشيخ عبد القادر محمد أدم المشهور بشيخ عبد القادر عكاشة السعدي، أحد الدعاء المرموقين في جنوب البلاد في القرن المنصرم، ومن طلبة الشيخ محمد معلم حسن. وفيما يتعلق بعلم الصرف اجتهد الشيخ عبد القادر في تحصيل هذا الفن من مظانه، ومن جهابذة دارسيه، مثل الشيخ نور حورشو ، والشيخ محمد الهادي الحسني، غير أنّ أهم شيوخه في هذا الفن هو فضيلة الشيخ عبد الرحمن الشيخ يوسف (طوب) الأغاديني المعروف بشيخ عبد الرحمن الصرفيلي لكونه اشتهر بدراسة الصرف ، والتف حوله طلبة العلم من مختلف المناطق في جنوب البلاد، وكان الشيخ عبد الرحمن الشيخ يوسف يعقد جلساته العلمية في مدينة مقديشو، وفي أكثر من مكان، مثل مسجد الشيخ عبد القادر المعروف بـ مسجد المقام، ومسجد طغحتور ، ومسجد عديغا، ومسجد مرواس، بالإضافة إلى بعض الزوايا والمكتبات التي كانت تبيع الكتب. وقد تلقى الشيخ عبد القادر عكاشة دروس شيخه عبد الرحمن الصرفيلي في مسجد طغحتور ومسجد الشيخ عبد القادر، وهذا النشاط العلمي جعله عكاشة ماهراً ومتقناً ، بل وتولى فيما بعد إقامة حلقات خاصة لعلم الصرف في الصومال وكينيا، كما تمكن وضع بعض كتب لها علاقة بالصرف وقواعده المعروفة، كما سيأتي في القسم الثاني من هذه الرسالة.
– الشيخ عبد الله أو أحمد علي المشهور بمعلم مدوبي الأبغالي، كان يداوم الحلقة الصرفية التي كان يقوم بها الشيخ عبد الرحمن الشيخ يوسف ( الشيخ عبد الرحمن الصرفيلي) رغم أنّه كان ينتمي إلى المدرسة الوارشيخية الصرفية المعروفة؛ لأنّه أخذ فن الصرف أيضاً من المجالس الصرفية التي كان رائدها للشيخ عبد الرحمن الشيخ يوسف (طوب) الصرفيلي الأغاديني، ، وبالتالي استفاد من حلقة شيخه بعض العلوم العربية بما فيها الصرف، وسوف يأتي الحديث عن جهوده الصرفية فيما بعد.
– الدكتور علمي طُحُلَو غَغَل كان ممن استفاد من مجالس الشيخ عبد الرحمن الشيخ يوسف (طوب) الأغاديني المشهور بشيخ عبد الرحمن الصرفيلي مع جمع غفير من طلبة العلم، وكان فضيلة الدكتور علمي طحلو يحضر مجالس الشيخ عبد الرحمن في مدينة مقديشو ، سواء عند ما كان يقرأ الدرس في مسجد مرواس، ومسجد الشيخ عبد القادر المعروف بـ المقام، أو عند ما كان الشيخ يعقد حلقته الصرفية بمسجد عدَيغا في حي حمرويني. ويُعدّ فضيلة الدكتور علمي طحلو من الذين أثروا الحياة العلمية والثقافية في مدينة مقديشو من خلال نشاطه المتواصل في الجامعات والمراكز العلمية سواء في التدريس وإشراف البحوث والدراسات العلمية، كما أنّ مؤلفاته لها أثر علمي يُعتمد، مثل كتابه ” كيف تكتب بحثاً علمياً ” ، وهو بحث نفيس يتداوله طلاب الجامعات بمدينة مقديشو ، وكذا مؤلفاته الأخرى التي انتفع بها خلق كثير، ليس في الصومال فحسب ، وإنّما في خارجها، ومن هذه المؤلفات:
– تحقيق ودراسة جزء من كتاب : الكامل في ضعفاء الرجال للحافظ ابن عديّ الجرجاني المتوفي 365ه.
– نقد الرواة عند المحدثين في القرون الثلاثة الأولى – دراسة تطور النقد مناهجه.
– وظيفة النقد عند المحدثين.
– نظرية التفسيرية الجغرافية لنشأة الفقه الإسلامي عرضاً وتصحيحاً.
– رواية المبتدع في ميزان النقد.
– اتجاهات المحدثين في رواية الحديث الضعيف.
– أسس تغير مذهب الإمام الشافعي.. بين الحقيقة والدعاء.
الشيخ نور عمر أبسوغي المشهور بالشيخ نور صرفي في مقديشو، وقد أخذ فنّ الصرف من الشيخ عبد الرحمن الشيخ يوسف (طوب) المشهور بالشيخ عبد الرحمن الصرفيلي الأغاديني الذي كان يشار إليه بالبنان في عصره، ثم بعد ذلك أسس الشيخ نور عمر أبسوغي حلقة علمية يدرس فيها علم الصرف على غرار شيخه السابق حتى أطلق عليه بالشيخ نور صرفي، ومن الذين أفلحوا من حلقته العلمية ولاسيما دروسه الصرفية الشيخ الدكتور أبو بكر حسن مالن المعروف بإتقانه وتبحره في هذا الفن حتى وضع رسالة لطيفة في علم الصرف. ولا غرابة في أن يكون الشيخ نور عمر بهذا المستوى؛ لأنّه كان قد أخذ هذا الفن على أيدي علماء عارفين كالشيخ عبد الرحمن الشيخ يوسف المشهور بشيخ عبد الرحمن صرفيلي – المذكور آنفاً، والذي كانت تعتبر حلقته من أهم الحلقات الصرفية في القطر الجنوبي.
…………………………..
الهامش
1- عبد الرحمن شيخ محمود الزيلعي. الصومال عروبتها وحضارتها الإسلامية، دار قنديل للنشر والتوزيع، القاهرة ، ط/1 كانون عام 1440هـ، الموافق ديسمبر 2018م ـ.ص 41.