ومع مرور الأيام زادت موجات هجرة الأسر الإيطالية المصحوبة بكميات هائلة من المعدات الزراعية، والكلاب الأوروبية الضخمة إلى ناحية جمامه بعد أن قدمت لهم سلطات المستعمر بعض الأراضي الزراعية المستصلحة على ضفتي نهر جوبا بهدف تشجيعهم على الاستيطان في المنطقة.
وتندر سكان مدينة جمامه طويلًا – أيام طفولتي- بأن أجدادنا السابقين صنفوا الطليان على أنهم نوع من جن سليمان بسبب معداتهم الشيطانية وكفاءتهم الزراعية، بينما كانت كلاب أهل جمامه المسكينة، الهزيلة والمنبوذة لأسباب دينية تشعر بالغيرة والحسد والغضب من مجرد رؤية كلاب الطليان الضخمة، المحبوبة والمدللة التي تركب السيارات مع أصحابها.
كان وصول هذه العائلات ونجاحها السريع في الاستقرار في ناحية جمامه متزامنا مع نجاح عائلات إيطالية أخرى في الاستقرار في نواحي أخرى على ضفتي نهرى جوبا وشبيلي إيذانًا ببداية وداع الأقاليم الواقعة بين النهرين ومدن ساحل بنادر (ورشيخ، مقديشو، مركا وبراوي) لقيم و اقتصاد العصور الوسطى القائم على بيع البشر و تصدير العبيد، وبداية التعامل مع قيم ومنتجات عصر الحداثة مثل تقديس العمل، واحترام الوقت، وميكنةالزراعة، والتصنيع الزراعي المعتمد على المحاصيل النقدية Cash Cropsالمنتجة بكمات تجارية هائلة.
وتجدُر هنا ملاحظة أن العائلات الإيطالية رغم كثرتها وتنوعها لم تُكَوِّن أبدًا أحياء خاصة بها في مدينة جمامه أو القرى المجاورة لها، بل فضلت كل عائلة الإقامة مع أطفالها وكلابها في بيوت محاطة ببساتين الحمضيات وحدائق الزهور في داخل حقول مزارعهم.
ويعني هذا، حسب تفسيري لهذه الظاهرة، أن هذه العائلات كانت قادمة من ثقافة أخرى، وترغب في تحقيق ذاتها عن طريق العمل الدؤوب في حقول مزارعها والتمتع بتشغيل آلاتهم الزراعية الرهيبة.
هذا الميل الأوروبي نحو تحقيق الذات عن طريق العمل لساعات وأيام وأشهر طويلة لم يكن معروفًا في ثقافة الفلاحين المحليين؛ وذلك لسبب بسيط يتمثل في عدم ورود فكرة المحاصيل النقدية يومًا في مخيلتهم، إلى جانب اعتمادهم عبر العصور على معدات يدوية بدائية تُقصم الظهر ولا تُدر نفعًا كبيرًا.
ومع مرور الأيام، وازدياد الإنتاج الزراعي لناحية جمامه بفضل عرق جبين العائلات الإيطالية المستوطنة وتنافسها في تدريب اليد العاملة المحلية لمساعدتها في تضخيم محاصيل حقولها، ظهر في وسط المدينة وبسرعة قياسية شركات تحمل أسماء معروفة عالميًا مثل كالتكس Caltex، موبيل Mobil، شل Shell و أجيب Agip بهدف التنافس في بيع البنزين ومشتقات النفط في مدينتي الاستوائية الصغيرة.
ولأن الشيء بالشيء يذكر، رافق ظاهرة اكتظاظ وسط المدينة بمحطات بيع البنزين التي تعمل على مدار الساعة، ظهور مراكز ضخمة لتصليح وصيانة الماكينات والمعدات الزراعية، إلى جوار مراكز متخصصة في صيانة الشاحنات ووسائل النقل الثقيل.
ليس هذا فحسب، بل ظهرت في شرق المدينة وغربها شركتان متنافستان على شراء وحلج القطن هما روسيكو Rosiko وسيسيا Sisiya.
عملت هاتان الشركتان بنظام النوبات الثلاثة التي تعمل بها معظم مصانع العالم حتى اليوم وكانت تشغل ما بين 150 إلى 200 عامل في اليوم الواحد، مع استلام العمال لأجورهم قبل بداية عطلة الأسبوع، ومن الظريف أن أمي وكل خالاتي والكثير من نساء المدينة كُنَ عاملات في تلك الشركات.
من جانب آخر، أدت ظاهرة الانتقال إلى مرحلة المحاصيل النقدية Cash Crop، وما تلا ذلك من تضخم الانتاج الزراعي، وافتتاح مصانع شركات حلج القطن، ومراكز صيانة الآلات الزراعية والشاحنات، وتزاحم محطات بيع البنزين إلى حد اكتظاظ المدينة والقرى المجاورة لها بالعمال المهاجرين القادمين من مناطق أخرى من الوطن الصومالي.
وبفضل تقنية وخبرة العائلات الإيطالية المذكور أعلاه، بالإضافة إلى حسن إدارة حاكم الناحية لهذا التغير الاجتماعي، وتفاني زوجته مارجريتا في تطوير وصيانة بنية تحتية حديثة لا تقل جودة عن تلك التي تتمتع بها المدن الأوروبية الصغيرة، إلى جانب رغبة سكان الناحية الجامحة في تغيير نمط حياتهم( كل هذه العوامل) تضاعف كم وكيف المنتوج الزراعي، إلى درجة أصبحفيها تصدير منتجات ناحية جمامه الزراعية (شبه المصنعة) إلى أوروبا عن طريق ميناء كسمايو ظاهرة تُمارس آناء الليل وأطراف النهار، ولا تثير انتباه أحد.
ومجرد قدوم هذه الشركات البترولية العالمية العملاقة من أمريكا الشمالية وشمال أوروبا في باكورة ثلاثينات القرن الماضي من أجل التنافس على بيع البنزين ومشتقات النفط في مدينتي الصغيرة التي كانت قبل سنوات قليلة مجرد قرية عشوائه نكرة، لَدليل ملموس على أن هذه المدينة الجديدة لم تعد مجرد قرية مجهولة في خط الاستواء، بل هي مدينة لها مكانة في خريطة العالم، وذات اقتصاد قوي يجذب الشركات العالمية إلى ترابها من أجل التنافس حول المكسب.
فهذه الشركات العالمية العملاقة، كما نعرف جميعًا لا تغامر بسمعتها بفتح أفرع لها في قرية أو مدينة استوائية نائية، دون دراسة جدوى مسبقة تشير إلى أن الاستثمار في تلك القرية أو المدينة يَعِدُ بربح وفير.
ومع تضخم وتنوع الإنتاج الزراعي لناحية جمامه، وزيادة تشجيع السلطة الإيطالية للفلاحين المحليين على الانتقال من مستوى إنتاج ما يسد الرمق بمعدات يدوية بدائية،إلى مستوى استئجار بعض الآلات الزراعية – ولو لبعض الوقت- بهدف التحول إلى إنتاج المحاصيل النقدية مثل القطن الذي كان يباع بأثمان باهظة،أصبح من الطبيعي بروز ظاهرة ندرة اليد العاملة، ومن ثم ارتفاع أجر العامل باليومية؛ مما أدي بالتالي إلى ارتفاع دخل الفرد، ومن ثم ارتفاع قدرته الشرائية، واستمرار تدفق المهاجرين الباحثين عن حياة أفضل إلى مدينة جمامه والقرى المجاورة لها.