بعد هذه الوثبات الثورية السريعة في تغيير البنية الاقتصادية لناحية جمامه، من اقتصاد رعوي زراعي قائم على أقدار الطبيعة المتقلبة، إلى اقتصاد قائم على التحكم في الطبيعة والسيطرة على قوانينها، ومكينة الزراعة ودخول عصر التصنيع، انتقلت شرائح متعددة من مجتمع هذه المدينة من حياة التنقل والبداوة، إلى حياة مستقرة قائمة على العمل في محالج القطن، شركات تغليف و تصدير الموز، مراكز صيانة المعدات والشاحنات، ومكاتب الحكومة المحلية وغير ذلك من المؤسسات؛ وبذلك ظهرت – وربما لأول تاريخ الصومال- طبقة بروليتارية صغيرة تعيش في المدينة، وينتسب بعض من أفرادها إلى نقابات عمالية محلية، وتراجع مكتب العمل، وتدفع الضرائب والرسوم لكل من الحكومة المركزية المحلية أي بلدية جمامه، وترسل أولادها إلى المدارس، كما ظهر إلى جوار هذه الطبقة البروليتارية الصغيرة طبقة عريضة من الفلاحين والعمال الزراعيين المهوسين بتضخيم حجم محاصيلهم النقدية، ويسكنون في الغالب في القرى المجاورة للمدينة، أو داخل حقول مزارعهم.
وبعد هذا الإنجاز العبقري العظيم،الذي شاركت في تحقيقه امرأة إيطالية تسمى مرجريتا، بقى أن نذكر أن هذه السيدة القديرة اختارت أن تقضي نحبها في مدينة جمامه، و بعد موتها في بيتها ووسط عائلته الصغيرة وعائلتها الكبيرة المكونة سكان ناحية جمامه، سميت (القرية الرعوية المجهولة التي شاركت في تغيرها إلى مدينة زراعية وصناعية) باسمها أي مرجريتا تقديرًا من أهل ناحية جمامه لجهودها الجبارة، ونشاطها المستمر، وإخلاصها في العمل، واعترافا بجميلها، وتخليدًا لذكراها كمستوطنة صالحة فعلت الكثير من أجل من عاشت بين جنباتهم.
والمؤسف حقًا، هو أنني لا أعرف تاريخ وفاة هذه السيدة الفضيلة، ولكن ما لا ينمحي أبدًا عن ذاكرتي هو أننا كنا نَمُرُ على قبرها -بين الفينة والأخرى- كصبية في طريقهم للسباحة في النهر، في أشهر الصيف، ولم نكن أيامها نمل من إعادة محاولة فك طلاسم النص المكتوب في اللوحة الرخامية المثبتة في قبرها.و
ومن جانب آخر لا تعد تسمية مدينة صومالية باسم شخص قدم لسكانها خدمات إنسانية جليلة بصرف النظر عن انتمائه العرقي والديني ليست محصورة بمدينة جمامه بل سبقتها في ذلك مدينة “جوهر Jowhar ” الحالية التي كانت تسمى قبل استقلال الصومال فيلا بروزي Villabruzzi
ويعود السبب في ذلك إلى أن أميرا من الأسرة المالكة الإيطالية باسم H.R.H.Principe Luigi Amedeo, Ducadegli Abruzzi أحب المنطقة عقب زيارته لها في عام 1905، ثم عاد إليها عام 1920 وتزوج امرأة صومالية من السكان المحليين وأسس مدينة جوهر الحالية، ونفذ-بهدف إلحاق منطقة جوهر بالحداثة- مشاريع من البنية التحتية مثل الطرق المعبدة، سكك الحديد، مدارس، مستوصفات، ومسجد وكنيسة، وأخيرًا مشروع أكبر مصنع للسكر في إفريقيا، ثم توفي ودفن في المدينة.
ملاحظة: قد يستغرب البعض أن أمير أوروبي من الأسرة المالكة الإيطالية يتزوج من امرأة أفريقية، قروية، أمية، لم تنل حظا ولو يسيرا من العلم، ولكن هذا حدث بالفعل في مدينة جوهر 1920.
والملاحظة الجديرة بالدراسة هي ظاهر الزواج المختلط بين الطليان والصوماليين إلى درجةظهور جيل جديد يحمل دماء صومالية إيطالية مختلطة كان يُسمى جيل مسيونيMisiono.
تقول حكمة الأقدمين: ” دوام الحال من المحال ” وتقول أيضًا: ” تجري الرياح بما لا تشتهي السفن”، وعليه تغير الحال و جرت رياح الحرب العالمية الثانية بما لا تشتهي سفن حكومات دول أوروبا، وأعْلَنَتْ – أي الحرب- رغم أنف الجميع انتهاءعصر الإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية العتيقة، وبزوغ فجر نظام عالمي جديد تمثل في انتقال القوة العالميةThe World Super Power من أوروبا المنهكة ، إلى كل من أمريكا الفتية صاحبة التاريخ العريق في النضال ضد المستعمر البريطاني من أجل نيل الاستقلال، والاتحاد السوفيتي الشيوعي الملهم والساعي لتخليص العالم من شرور النظام الرأسمالي واحتكار1% من سكان العالم للثروة للسلطة والسلاح.
وعلى ما سبق، أدت المباحثات السياسية والاقتصادية التي تلت نهاية الحرب العالمية الثانية بين أوروبا المنهكة (التي كانت بحاجة ماسة إلى ضخ رؤوس أموال سائلة في عروق اقتصادها المنهار بهدف إعادة تعمير مدنها المدمرة، وصيانة مصانعها المعطوبة) وأمريكا الساعية للحصول موطئ قدم وأسواق جديدة في إفريقيا إلى إجبار أوروبا على منح الاستقلال لمستعمراتها في إفريقيا مقابل الحصول على منح،”مساعدات وقروض أمريكية” تساعدها على الوقوف بقدميها من جديد، أو ما عرف باختصار بمشروع مارشال Marshall Plan.
وهكذا، وفي لمح البصر، ونتيجة لتفاهمات أوروبية أمريكية وبدون إشعار سابق لشعوب القارة أو مقدمات أو أي نضال من أي نوع وجدت 17 عشرة مستعمرة أوروبية في أفريقيا من بينها الصومال، نعم 17 عشرة مستعمرة أوروبية في إفريقيا من بينها الصومال نفسها على عتبة نيل الاستقلال في عام 1960.
وكل ما حدث – باختصار شديد- هو وضع الصومال الإيطالي تحت وصاية الأمم المتحدة لمدة عشر سنوات على أن تستفيد إيطاليا المهزومة والمنهكة اقتصاديًا من برنامج الأمم المتحدة الخاص ببناء مؤسسات الدولة لمستعمرتها السابقة خلال هذه السنوات. أي أن الدولة الإيطالية لم تكن – في مرحلة وصاية الأمم المتحدة على الصومال 1950- 1960 أكثر مما نسميه هذه الأيام منظمة غير حكومية NGO تستلم دعمًا ماليًا من الأمم المتحدة لمساعدة مستعمرتها السابقة في تكوين مؤسسات دولة عصرية.
والأسئلة الوجيهة التي يفترض كاتب هذه الأسطر على أنها تدور في خُلد كل من يهتم بتاريخ الصومال الإيطالي في الفترة القصيرة الواقعة بين نهاية الحرب العالمية الثانية وإعلان وصاية الأمم المتحدة على الصومال الإيطالي لعشر سنوات ينال بعدها الاستقلال.. هيكالاتي:
- أولا وقبل كل شيء، هل قاوم الشعب الصومالي احتلال المستعمر لبلاده، أم أنه استسلم لهذه القوة الغازية من أول وهلة، وهل هناك وثائق تاريخية تثبت أن الشعب الصومالي قاوم المستعمر الإيطالي بكل بسالة، ولم يذعن له قبل أن تُروي دماؤه الزكية تراب الوطن ؟
الجواب الصحيح على هذا السؤال هو “نعم” وهناك أدلة ووثائق تاريخية كافية لإثبات مقاومة الشعب الصومالي لاحتلال المستعمر لأرضة، وأن هذه المقاومة انتهت بهزيمة القوات الإيطالية المتفوقة تكنولوجيًا، على قوات المقاومة الوطنية بقيادة عشائر قبيلة بيمال في آخر معاقلها في مدينة مركا الساحلية في عام 1924.
ولمزيد من المعلومات.. راجع كل من كتاب الدكتور عبدي كوسوAbdiKuusow المسمى
Putting the cart before the horse: contested nationalism and the crisis of the nation-state in Somalia. Red Sea Press. p. 86. ISBN 9781569022023.
وكتاب GherardoPantano المسمى NelBenadir: La Citta di Merca e la RegioneBimal)
- ولكن، هل يذكر التاريخ أن شعب”الصومال الإيطالي” ناضل ضد المستعمر وطالب باستقلال بلاده قبل احتلال بريطانيا للصومال الإيطالي في أثناء الحرب العالمية الثانية وبالتحديد قبل عام 1941 أي عام احتلال بريطانيا لإقليم الصومال الإيطالي؟ وهل هناك وثائق تاريخية كافية لإثبات هذا النضال؟
الجواب الموضوعي الصحيح وغير العاطفي على هذا السؤال هو ” لا” لم يناضل، ولم يطالب شعب “الصومال الإيطالي”باستقلال بلاده في أي فترة من التاريخ بعد عام 1924وكل ما حدث عمليًا هو أن الاستقلال فُرِضَ على شعب إقليم الصومال الإيطالي فرضًا، كما فُرِضَ على 16 دولة إفريقية أخرى، كنتيجة لانهيارالإمبراطوريات الاستعمارية الأوربية، وبزوغ قوى عالمية جديدة، ونظام عالمي جديد بقيادة كل من أمريكا والاتحاد السوفيتي الطامعين في الحصول على موطئ قدم في إفريقيا.
- هل كان الشعب الصومالي مستوعبًا لقيم الحداثة استيعابا كاملا، ومستعدًا لإرادة دولة ديموقراطية مؤسسة على نظام تعدد الأحزاب، على غرار ما حدث عقب استقلال الهند عن بريطانيا في عام 1947على سبيل المثال؟ وهل امتلك الشعب الصومالي كوارد فنية قادرة على إدارة دفة دولة حديثة بعد الاستقلالفي عام 1960؟
الجواب على السؤال السابقبكل بساطة هو “لا”، لم يكن شعب الصومال الإيطالي المكون أساساً من عشائر رعوية متناحرة حول العشب والماء مستوعبًا تمامًا لقيم الحداثة، وبالتالي لم يكن مستعدا لإدارة دفة دولة ديموقراطية مؤسسة على نظام تعدد الأحزاب كما كان الحال في الهند التي خضعت للتاج البريطاني لأكثر من قرنين، كما لم تكن في حوزة الشعب الصومالي كوادر فنية قادرة على إدارة دفة دولة حديثة في عام 1960.
- هل كانت هناك قوى وطنية مستنيرة وذات بصيرة ترى وتنادي عاليًا بأن شعب الصومال الإيطالي ليس مستعدًا للاستقلال، ولا يملك كوادر وطنية قادرة على إدارة دفة دولة حديثة، وطالبت بتمديد فترة الوصاية إلى أجل آخر وعدم التسرع في إنهاء الوصاية وإعلان الاستقلال في عام 1960؟
الجواب على هذه السؤال الوجيه هو “نعم” كانت هناك قوى وطنية مستنيرة و ذات بصيرة كانت ترى استحالة إدارة دولة عصرية حديثة دون استيعاب غالبية المجتمع الصومالي لقيم ومتطلبات عصر الحداثة، ودون أن تتوفر له كوادرفنية قادرة على إدارة دواليب دولة حديثة بكفاء.
وكان على رأس القوى الوطنية المستنيرة السياسي الشهير عبدالقادر محمد آدان زوبىAbdulcadir Muhammed Aden(Zobe )
ولكن، وللأسف الشديد، سبق السيف العذل، ووقعت الواقعة وكان على أوروبا أن تخضع لإملاءات أمريكا والاتحاد السوفيتي وتوافق على منح 17 مستعمرة افريقية استقلالهاعام 1960 بصرف النظر عن مدى استعداد شعوب هذه المستعمرات لإدارة شأن بلادهم بصورة عصرية.
وعندما أصبح استقلال الصومال الإيطالي في عام 1960أمراً لا مفر منه نادت نفس القلة الوطنية المستنيرة بقيادة السياسي عبد القادر محمود زوبي بعدم تركيز السلطة في يد حكومة مركزية، بل تفتيتها عن طريق اتباع النظام الفيدرالي، ولكن وللأسف لم يقع نداء هذه القلة المستنيرة في آذان صاغية. (يمكنك مراجعة تاريخ حياة هذا السياسي بكتابة اسمه في ويكبيديا باللغة الصومالية).
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الشبكة، وإنما تعبر عن رأي أصحابها!