ولكن كيف تفاعلت مدينتي الصغيرة مع حكم العسكر لقرابة عقدين من الزمن؟
لا أبتعدُ كثيرًا عن الحقيقة إذا خمَّت سلفًا أن الأحوال لم تكن على ما يرام في مدينتي الصغيرة حتى قبل انقضاء السنوات الذهبية الخمسة آنفة الذكر.
وإذا سألت نفسك هل كانت ناحية جمامه ممثلة في مجلس “قيادة الثورة” أي مجلس قيادة “انقلاب”، أو في مجلس الوزراء، أو فيما بعد قادة الحزب الحاكم أو حتى الشريحة العليا من التكنوقراط المسير لدواليب الحكومة؟ يكون الجواب بكل بساطة “لا” لم يكن هناك أحد يمثل مدينتي الصغيرة والمهمشة عن قصد، لم يكن أحد يمثلها حتى في المستويات الدينا في هيكل الحكومة ناهيك عن مراكز اتخاذ القرار.
ووضع أبناء مدينتي الصغيرة فيما يتعلق بالشأن السياسي كان مماثلًا تمامًا لوضعسكان المحافظات الزراعية في الجنوب، أي أن ” دولة الفساد” و “دولة العسكر” لم تكن بالنسبة لأهل جنوب الوطن الصومالي سوى وجهين لعملة الواحدة The two sides of the same coin. وظلوا غرباء منتجين، ومع ذلك مهمشين وغير مرغوب فيهم في كل هياكل الدولة في بلادهم.
أما أول خطوة اتخذها حكم العسكر ضد سكان ناحية جمامة، نعم، ما قرأته صحيح، أول خطوة اتخذها حكم العسكر ضد سكان ناحية جمامه هو غلق المستشفى ومعهد التمريض ومدرسة البعثة التبشيرية الأمريكية مرة واحدة؛ وإلى الأبد.
ولكن هل بنت الدولة مستشفى آخر في المدينة قبل أن تغلق أبواب المستشفى الوحيد العامل في ناحية جمامه؟ الجواب لا، لم تفعل ذلك.
وهل أنشأت الدولة معهد تمريض تابع لها قبل أن تغلق أبواب معهد التمريض أنشأته البعثة التبشير الأمريكية؟ الجواب طبعًا لا لم تفعل الحكومة ذلك.
وهل فتحت الدولة مدرسة للأطفال قبل أن تغلق أبواب المدرسة الأمريكية التي يتعلم فيها أطفال المدينة العلم النافع أم رمتهم في الشارع؟
الجواب كما هو متوقع هو “لا” لم تفتح الحكومة أبواب مدرسة أخرى للأطفال كبديل للمدرسة التي أغلقت أبوابها، وتركتهم في ظلمات يعمهون.
لماذا تغلق الدولة واحد من أحسن المستشفيات التي تقدم خدمات صحية مجانية للشعب الصومالي دون أن تقدم بديلا؟
لماذا تغلق الدولة ثاني معهد تمريض يتخرج فيه كل عام ممرضون وممرضات أكفاء بدون تكلفة دون أن تقدم بديلا؟
لماذا تغلق الدولة مدرسة تشكل أطفال الوطن وتجعل منهم مواطنين صالحين يفيدون أنفسهم، وبالتالي الوطن، قبل أن تقدم لهم مدرسة أخرى بديلة؟
الإجابة الصحيحة عن الأسئلة الثلاثة أو هدف الدولة الحقيقي من حرمان مجتمع ناحية جمامه من العلاج والتعليم غير معروفة حتى الآن، ولكن يمكن تخمينه.
وهل كان من الممكن أن تتخذ الدولة نفس هذا القرار البائس لو كان هذا المستشفى، وهذا المعهد وهذه المدرسة في خدمة ناحية من نواحي الأقاليم الوسطى الممثلة في الجهاز الحكومي على كل المستويات؟ الجواب هو لا، والسبب في ذلك هو أن الأقاليم الوسطى لم تكن مهمشة، بل كانت ممثلة في أجهزة الحكومة على كل المستويات، وبذلك يتمكن المنتمون لهذه الأقاليم الدفاع عن مصالحهم والوقوف ضد غلق هذه المؤسسات دون تقديم بديل.
أما التبرير القبيح الذي قدمته دولة العسكر لغلق هذه المرافق الخدمية الجليلة، دون تقديم بديل لسكان ناحية جمامه هو أن هذه البعثة التبشيرية ليست أكثر من مجموعةجواسيس، وأنها تدفع الناس لاعتناق المسيحية.
لم يبلع أهل جمامه بطبيعة الحال هذا التبرير السخيف، لسبب بسيط، هو أن جمامه وما حولها لم تكن منطقة عسكرية، ولم تكن فيها ثكنة عسكرية أو حتى مرفق مدني هام ترغب أمريكا أن تعرف ما يدور في داخله.
أضف إلى ذلك أن دولة العسكر كانت تعلم جيدًا الشعب الصومالي لم يعتنق المسيحية رغم عقود طويلة من التبشير الكاثوليكي النشط في أيام المستعمر الإيطالي فما سبب القلق الآن؟
ثم أن هذه البعثة التبشيرية لم تُقِم كنيسة في داخل أو خارج موقعها، ولم تكن تدرس في مدارسها مواد دينية مسيحية، بل كانت تدرس مواد دينية إسلامية يقوم بتدريسها للأطفال مدرسون صوماليون، فما سبب القلق؟
إلى جوار هذا، لم تكن هناك ابدًا أدلة ملموسة أو حتى شائعات تشير إلى أن أحد المتعاملين مع هذه البعثة بَدَّلَ دينه من الإسلام إلى المسيحية، فلم القلق؟
عزلت دولة الفساد مجتمع ناحية جمامه من المجتمع الكبير بعزلهم من الطريق المرصوف الذي يربط مدينة كيسمايو بمدينة جِلِبْ، لسبب لا يمكن تفسيره بشيء آخر غير رغبة دفينة في تهميش سكان هذه الناحية.
ثم جاءت دولة العسكر إلى الحكم وبادرت في إغلاق المستشفى ومعهد التمريض والمدرسة بعذر واهٍ، ودون أن تقدم تعويضالسكان الناحية.
لماذا فعلت دولة العسكر هذا المنكر؟ ربما لعدم وجود من يمثل ناحية جمامه في مراكز اتخاذ القرار كي يدافع عن مصالهم، أو ربما لرغبة حكومة العسكر التي هي البنت الشرعية لدولة الفساد في عزل وتجهيل سكان ناحية جمامه.
لم تمر سوى أشهر معدودة من هذا الحدث اللئيم الأليم، حتى سمع سكان ناحية جمامه عبر الراديو أن الصومال سيصل قريبًا إلى مستوى الاكتفاء الذاتي في كل شيء، وأننا سندخل قريبًا عصر التصنيع، وأن الدولة ستقيم المصانع في كل مكان، وأن من ضمن خططها في التصنيع هو إقامة مصنع للملابس لإنتاج ما يغطى حاجة الشعب الصومالي من الملابس.
استبشر أهل جمامه وما حولها خيراً بسماع هذا الخبر، ولطيبة قلوبهم توقعوا أن ناحيتهم دون غيرها تستحق الفوز بهذا المصنع، بحجة أنها المنطقة الوحيدة التي تزرع القطن في جميع أرجاء الوطن الصومالي، وأن الدولة تعلم أن الطليان أقاموا مصانع حلج القطن في جمامه وليس في غيرها لسبب اقتصادي يسهل فهمه هو توفير تكلفة نقل القطن الخام لحلج في مناطق أخرى، ولأن الملابس المصنوعة في ناحيتهم يمكن شحنها برًا وبحرًا إلى كل أقاليم الصومال بسهولة.
ناقش المتنورين من أهل جمامه لأسبوعين أو ثلاثةمسألة إقامة مصنع الملابس في ناحيتهم، واتفقوا أخير على إرسال وفد منهم إلى مقديشوا للمطالبة ببناء المصنع بالقرب من الميناء الطبيعي لقرية ترطو Turdho الذي ترسوا فيه قوارب صيد السمك وغيرالبعيدة عن مدينة جمامه.
وبعد ممارسة ضغوط عديدة، وتقديم بعض الهدايا من العسل المصفى على شكل رشاوي، رضخ الحاكم العسكري لناحية جمامه لرغبة المتنورين ووافق على تزويدهم برسالة موجه إلى مكتب رئيس الجمهورية يشرح فيها رغتهم في مناقشة بناء مصنع الملابس مع الرئيس.
وعقب وصولهم إلى مقديشو وتقديم رسالة الحاكم العسكري إلى مكتب رئيس الجمهورية، انتظر هذا الوفد نحو شهر أو أكثر قبل أن يتمكنوا ذات مساء من مقابلة الرئيس في مكتبه.
شرح الوفد لرئيس الجمهورية تاريخ الزراعة في ناحيتهم، وكيف سارعت الشركات الإيطالية على التنافس في إقامة مصانع لحج القطن في مدينتهم، كما شرحوا له إمكانية نقل الملابس المصنوعة بالقرب من مزارعهم المنتجة للقطن إلى مقديشووباقي المدن الساحلية الأخرى بثمن زهيد باستخدام القوارب الشراعية.
وأضافوا إلى ذلك عدم وجود مناطق أخرى تتوفر فيها هذه العوامل التي تساعد على إنتاج الملابس محليا بتكلفه أقل، وأخيرًا طلبوا منه أن يضمن لهم بناء هذا المصنع في ناحيتهم.
لم يناقش رئيس الجمهورية مع هذا الوفد الحجج التي قدموها للفوز ببناء المصنع في ناحيتهم، كما لم يُعطهم وعدا بتحقيق حلمهم، بل قال لهم، أنه لا يتخذ القرارات الفنية بنفسه، بل يتركها للجنة الخبراء المسؤولة عن التصنيع في وزارة الصناعة، وأنه سيخاطب وزير الصناعة نيابة عنهم غدًا صباحًا.
وعندما شارفت المقابلة نهايتها، وعقب قراءة لغة جسد الرئيس، أصبح الوفد على يقين تام بأنه سيعودون غدًا الى مدينتهم بخفي حنين.
وبعد سنة أو نحو ذلك من يوم عودة هذا الوفد من مقديشو خالي الوفاض، سمع الناس من الراديو أن مصنع الملابس سيقام في مدينة “بَلْعَدْ”، وأن المصنع سيكون جاهزًا للعمل بكل طاقته في مدة أقصها عام واحد لا أكثر.
لم يستغرب أهل جمامه الأمر كثيرًا، فهم كانوا على علم تام بأنهم غير ممثلين في السلطة، وأنهم ليسوا أكثر من مجموعة مهمشة، وأن حالهم الحالي لا يختلف كثيرًا عن حالهم أيام دولة الفساد، وأن النكوص من قيم الحداثة والارتداد إلى محسوبية عصر الظلمات والقرون الوسطى حقيقة لا مفر منها.
ومن الغريزي، أن يبحث الناس في مدينتي الصغيرة عن أسباب فشل ناحيتهم بالفوز بالمصنع رغم كل الامتيازات الاستثنائية التي تتوفر لهذا المصنع إن تمت إقامته في ناحيتهم.
كما أن من الطبيعي أيضًا أن يبحثوا عن أسباب فوز ناحية بَلْعَدْ بهذا المصنع مع العلم أنها لا تزرع القطن، ولا تطل على ميناء يساعد على نقل الملابس المنتجة في المصنع بحراً إلى الأقاليم الأخرى، كما بحثوا أيضًا عن الامتيازات التي ساعدت مدينة بَلْعَدْ للفوز بالمصنع؟
وبعد أسابيع من البحث والمراسلة مع أقربائهم في مقديشو، اكتشف سكان جمامه أن سبب فوز ناحية بلعد بالمصنع هو أن وزير الصناعة ينتمي إلى هذه الناحية وليس غير ذلك.
أي أن بَلْعَدْ ممثلة في السلطة، وعليه، لها حق الحصول على امتيازات خاصة، مثلها في ذلك مثل غيرها من النواحي الممثلة في السلطة.أما جمامه وأخواتها المهمشاتفعليها انتظار فتات المائدة.
كف الناس في مدينتي الصغيرة الحديث عن المصنع، وعادوا من جديد الى زراعة القطن على أمل استرجاع أيام المحاصيل النقدية، وبيع الذهب الأبيض لشركات حلج القطن الإيطالية بأثمان عالية.
ولكن الدهر علمنا ما أصبح جزءا من الماضي، سيظل هناك ولن يعود، وعليه؛ لم يعد القطن المنتوج في مزارع ناحية جمامه يساوى ذهباً، بل أصبح بسعر التراب؛ لأن المصنع هو الذي يحدد ثمن شراء القطن وليس قانون العرض والطلب كما كان حال أيام الطليان.
يرسل المصنع في موسم الحصاد مجموعة من الموظفين غير أمناء، أو إن شئت مجموعة من النصابين لشراء القطن من الفلاحين بسعر زهيد، ولا يستطيع الفلاح الدفاع عن نفسه عندما يسرق النصابون عرق جبينه الذي يبيعه للمصنع بسعر زهيد عن طريق التلاعب في الميزان.
زرع الناس القطن لثلاثة أو أربعة مواسم متتالية، على أمل أن يتحسن سعر الشراء أو ينتهي التلاعب في الميزان، ثم تركوا زراعته بعد أن أصبح سعر الشراء أقل من سعر التكلفة.
لم تهتم الدولة بدراسة أسباب نفور أهل جمامه من زراعة القطن، وكل ما فعلته هو استيراد بالات القطن المحلوج من الهند بالعملة الصعبة، وبذلك حُلَّت المشكلة.
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الشبكة، وإنما تعبر عن رأي أصحابها!