في 8 ديسمبر 2023، تشرفت بتعييني مستشارًا كبيرًا للمصالحة من قبل رئيس جمهورية الصومال الفيدرالية د. حسن شيخ محمود. يأتي هذا الدوربعد كوني مستشارًا كبيرًا في الشؤون الدستورية. لقد كانت المصالحة محور اهتمامي منذ عام 1994، كوني رئيسا للمجلس الصومالي للمصالحة، الذي قام بدورمحوري في إنشاء شبكات المجتمع المدني وإجراء مصالحات فاعلة في مناطق مختلفة من الصومال. لقد لعب المجلس دوراً حيوياً في مؤتمر السلام والمصالحة الصومالي الذي انعقد في جيبوتي في عام 2000. ويعكس تعييني الجديد شعار الرئيس ” الصومال– السلام ، صومالي نبد آه“، والذي يعني تحقيق وفاق ومصالحة دائمة بين أبناء الشعب الصومالي الواحد. ومن هذا المنطلق، فإن مهمتي الأساسية هي وضع أطر محددّة للسلام واقتراح سيناريوهات لتحقيق الرؤية الرئاسية للمصالحة بين المكونات المختلفة للصوماليين. لكن تحقيق المصالحة على أرض الواقع ليس من مسؤوليتي؛ وهو من اختصاص وزارات الداخلية وربما أيضا على مؤسسات أخرى على مستوى الولايات الوطنية والاتحادية. طوال ثلاثة عقود من الدراسة والمشاركة بنشاط في جهود المصالحة، ظهرنى إدراك عميق بسوء الفهم المنتشر بطبيعة الصراع والحاجة الملحة إلى المصالحة بين النخب السياسية الصومالية والجمهور الأوسع. على مر السنين، زودتني مشاركتي الواسعة في هذا المجال برؤية كافية لتعقيدات القضايا المطروحة. وأصبح من الواضح ، أن هناك فجوة كبيرة في فهم الطبيعة الحقيقية للصراعات والمتطلبات الدقيقة لتحقيق مصالحة حقيقية بين النخب السياسية والمكونات الأخرى في الصومال.
يكمن جوهر التحديات التي تواجه الصومال في التفسير الخاطئ للأسباب الكامنة وراء الصراع الذي أدى في نهاية المطاف إلى الحرب الأهلية المدمرة وما تلاها من انهيار الدولة في عام 1991. ومن المؤسف أن النخب السياسية الصومالية تعمل على إدامة السرد الذي يوقذ الصراع باعتبارها متجذرة في المقام الأول في التنافس العشائري والاستحواذ على بعض المكاسب العاجلة ، مما حجب، ولا يزال، كونه صراعًا بين النخبة السياسية التي تتنافس على السلطة والامتيازات والهيبة والمقامات. إن استمرار تصوير الصراع على أنه صراع عشائري قد أعاق صياغة استراتيجيات فعالة للحل والمصالحة وإيجاد حل خالد في الأزمة السياسية الصومالية. وبالتالي، فمن الأهمية بمكان كشف هذا المفهوم الخاطئ ولفت الانتباه إلى الطبيعة الحقيقية للصراع على أنه صراع على السلطة السياسية والامتيازات الحكومية والهيبة العشائرية بين النخبة وليس صراعا ناتجا من عداء حقيقي بين المكونات المختلفة ويعكس وجود أيدولوجيات متناقضة من أبناء البلاد، أو بمعنى آخر، يجب التأكيد على أن الصراع القائم ومنحنياته المتحورة هو صراع سياسي بالدرجة الأولى وليس صراعا اجتماعيا أوغيره من الصراعات الكثيرة الأوجه ، وإذاكان يوجد صراع آخر في مكان ما في أنحاء البلاد ، فهو إما هو متصل بصراع سياسي سابق أومتفرع عن صراع سياسي قائم في منطقة آخرى .
إن الوصف الخاطئ للنزاع على أنه صراع عشائري لم يؤد إلا إدامة السرد المشوه فحسب، بل عزز أيضًا بيئة يتمتع فيها الجناة بالإفلات من العقاب. إن النظر إلى الصراعات من خلال عدسة تتمحور حول العشيرة غالبًا ما أدى إلى افتراض، أن المسؤولية عن تصرفات عدد قليل من الأفراد تمتد بشكل جماعي إلى العشيرة بأكملها، مما يضعف المساءلة الفردية ويقلل من المسؤولية الفردية في الجريمة و الفعل السيء. سمح هذا الفهم الخاطئ للمسؤولين عن الأفعال الشنيعة بالإفلات من العدالة والعقاب، حيث تحول التركيز نحو اللوم المعمم بدلاً من تحميل أفراد محددين المسؤولية عن أفعالهم. وعلاوة على ذلك، كان لهذا التفسير عواقب وخيمة على حقوق الضحايا والمتضررين من الجرائم ودورة القتل والاقتتال اللامنتهي . وفي السعي إلى حل النزاعات ضمن إطار النموذج العشائري، كثيرا ما تم تهميش حقوق الضحايا ومظالمهم. لقد طغى التركيز على المسؤولية الجماعية على الحاجة إلى العدالة على المستوى الشخصي، مما قوض حقوق أولئك الذين عانوا أكثر من غيرهم خلال الأوقات المضطربة. ولإضافة طبقة أخرى إلى هذه القضية، فإن مؤتمرات المصالحة، التي كانت تهدف ظاهريًا إلى حل النزاعات، غالبًا ما تحولت إلى مجرد ترتيبات لتقاسم السلطة بين النخبة السياسية. وبدلاً من معالجة الأسباب الجذرية والظلم، اتجهت هذه المؤتمرات إلى خدمة مصالح الفصائل السياسية، وتعزيز هياكل السلطة القائمة دون معالجة مظالم الناس بشكل حقيقي والوقوف عند الجرائم والأضرار ومرتكبيها. ولتمهيد الطريق أمام مصالحة حقيقية وسلام مستدام، لا بد من تحدي هذه المفاهيم الخاطئة وتصحيحها، مع التركيز مجددًا على المساءلة الفردية وحقوق الضحايا وقضايا نتائج الطغيان السياسي ومسألة الممتلكات المنقولة وغيرالمنقولة التي تم آخذها أوالاستحلال بها ومعالجة ديناميكيات السلطة الفعلية الكامنة وراء الصراعات.
إن صياغة إطار شامل للمصالحة في الصومال أمر ضروري، حيث لا يمكن تطبيق صيغة عالمية لعلاج الجراح المتعددة الأوجه لمجتمع يتصارع مع آثار الصراعات الطويلة الأمد . وكان مجلس الوزراء قد وافق على إطار المصالحة الوطنية في عام 2019، لكن لم يتم تنفيذه بعد لسبب ما أو لآخر. تتطلب معالجة الطبقات المعقدة من الألم والصدمات اتباع نهج مخصص يتعرف على الظروف الفريدة المحيطة بكل صراع. وفي السعي لتحقيق السلام المستدام، لا بد من تسليط الضوء على الأحداث التاريخية المؤلمة التي ارتكبها أفراد أو جماعات، ومواجهة حقائق الماضي القاسية بشكل جماعي. إن الاعتراف بالظلم الواقع على الضحايا يصبح حجر الزاوية لتعزيز التفاهم والتعاطف، ووضع الأساس للمجتمع لتجاوز ندوب تاريخه حية وقائمة الأثر بشكل جماعي. إن الرحلة نحو المصالحة ليست حلاً سريعاً؛ إنها عملية دائمة وتدريجية تتطلب جهدا متواصلا على مدى فترة طويلة ومقبلة. إن الالتزام الثابت بهذه العملية أمر ضروري، لأنه يعمل على تنمية الثقة، واستعادة العلاقات المنكسرة، وإرساء الأساس لمجتمع متناغم وموحد. ومع مرور الوقت، يصبح تضميد الجراح المجتمعية مسؤولية مشتركة، تنطوي على الحوار المستمر والتعليم وتنفيذ السياسات التي تعالج الأسباب الجذرية للصراع.
وفي هذا السياق، لا بد من تحديد ثلاث فئات مختلفة للمصالحة والتعمق فيها ضمن هذا المجال، باستثناء الصراعات التي أنشأتها حركة الشباب والتي يجب معالجتها بشكل مختلف. أولاً، هناك المصالحة المجتمعية، والتي تتعلق بالمواءمة بين العشائر الناشئة عن الصراعات غير السياسية. يركز هذا النوع من المصالحة على حل النزاعات وتعزيز الوحدة بين مختلف الفصائل المجتمعية التي ربما تكون قد شهدت توترات لا علاقة لها بالديناميكيات السياسية. وهذا الشكل من المصالحة مألوف لدى الصوماليين. ويمارسها شيوخ العشائر بشكل روتيني بدعم من السلطات، على الرغم من أن ديناميكيات الصراعات المجتمعية أصبحت أكثر تعقيدًا منذ نشوب الحرب الأهلية. ثانيا، هناك حاجة إلى تسوية سلمية للصراع السياسي، وهو ما يعالج الحاجة إلى حل وفهم الخلافات السياسية. وتسعى هذه المصالحة إلى إحلال السلام والتعاون بين الكيانات السياسية المتعارضة، مع التأكيد على أهمية الحوار والتسوية للتغلب على صراعات المصالح والاختلافات الأيديولوجية. وأخيراً، الفئة الثالثة هي حل النزاعات السياسية التي تحرض على التورط العشائري والصراعات المسلحة. ويشكل هذا النوع من المصالحة تحديًا خاصًا لأنه يتطلب معالجة الفوارق السياسية ومعالجة العداء العشائري العميق والصراعات التي ربما يكون الدافع وراءها هو خلاف النخب السياسية المنتمية إلى عشائر مختلفة. ومن الأمثلة على هذه الخلافات تأسيس الفصائل السياسية المسلحة التي أطاحت بالدولة الصومالية عام 1991.
وفي التعامل مع هذه الأبعاد المتنوعة للمصالحة، من الضروري اتباع نهج شامل. يتضمن ذلك استخدام استراتيجيات مصممة خصيصًا للديناميكيات الفريدة لكل نوع من أنواع الصراع. قد تتطلب المصالحة المجتمعية مصالحة عشائرية، ومبادرات بناء المجتمع، وفهم الثقافات المحلية المتنوعة بهدف إيجاد حل عملي يخفض دورة الصراع العشائري ويخلق آليات حل واضحة المعلم تساهم في تخليدها مؤسسات مختلفة رسمية وغير رسمية . ومن ناحية أخرى، قد يتضمن الحل السلمي للصراع السياسي بذل جهود دبلوماسية وحوار مقنع ومفاوضات شاقة في بعض الأحيان. علاوة على ذلك، فإن معالجة الصراعات السياسية المتشابكة مع العداء العشائري قد تتطلب اتباع نهج متعدد الأوجه، يتضمن الحوار السياسي والمبادرات لتعزيز المصالحة بين العشائر المتضررة. في جوهر الأمر، يعد الاعتراف بهذه الأنواع الثلاثة من المصالحة والتمييز بينها أمرًا بالغ الأهمية لصياغة تدخلات فعالة وموجهة بالأساس. تعرض كل فئة تحدياتها وتعقيداتها، ويعد الفهم الدقيق للديناميكيات الأساسية أمرًا ضروريًا لتطويرالاستراتيجيات التي تعزز الانسجام والتعاون الدائمين ضمن المناظر الطبيعية المجتمعية المتنوعة.
الأمر الأول يتلخص في المصالحة بين النخب السياسية لتعزيز الانسجام بينها، وهو أمر ضروري لاستعادة تماسك مفاصل الدولة الصومالية والحفاظ على فعالية هياكلها السياسية المحورية . ويتطلب حل الصراعات الأخرى مشاركة مؤسسات الدولة القادرة على التخفيف منها ومعالجتها بشكل شامل. وفي الواقع، تصبح مؤسسات الدولة، المجهزة بالآليات والقدرات اللازمة، فعالة في إدارة وحل النزاعات على مختلف المستويات وفقًا للمبادئ التوجيهية المعتمدة لإطار المصالحة الوطنية.